الإنسان مخلوق مركب؛ جسده طيني، وروحه من نفح الإله الخالق سبحانه وتعالى. خلال النهار ينشغل بالماديات والعمل والعلاقات والأحداث اليومية.. قد يغفل فيه عن تفقده للحبل الذي يربطه بخالقه، وبين لحظة وأخرى قد ينسى أو يسيء… وهذا الحبل لا يقوى إلا بأعمال الخير والعبادة الصحيحة، إذ بها يشعر القلب الخاضع لله بالطمأنينة والراحة الحقيقية، وفي البعد عنها قد يشعر بالتعب والاضطراب والقلق، فالراحة التي يبحث عنها لا يجدها إلا بين أحضان الرحمة الإلهية، حيث الصلة بين القلب والروح، حيث السكينة تخفف هموم اليوم، وتغذي الإيمان، وتجعل الرضى يملأ القلب، ويوطد محبة الخالق الوهاب فتتجلى على الجوارح عملا طيبا مباركا.
يختار المحب التائب أن يجلس بين يدي الرحمان، يفكر فيما فعل في يومه، فيغمر قلبه شعور بالامتنان والرضى، ثم يتأمل في أخطاء وذنوب ارتكبها دون قصد، ينزف قلبه ألما يعتصره، تدمع عينيه خوفا ورجاء وطمعا في مغفرة، يدعو المولى عز وجل أن يصيبه بنفحات روحانية، تجعله أقوى في اليوم التالي، وأكثر حرصا.
يجدد العهد مع الله، يفعل ما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحيي سنته ويقتدي بها عسى أن يقبله الله عز وجل ويدرج اسمه مع المستغفرين.
جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “واللَّهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وأَتُوبُ إلَيْهِ في اليَومِ أكْثَرَ مِن سَبْعِينَ مَرَّةً” 1؛ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستغفار المستمر، فالعودة إلى الله تجعل كل فعل وكل شعور وكل لحظة في حياتك ذات معنى، تذكرك بحقيقتك كإنسان، بالغاية من وجودك. الاستغفار، التأمل، والشكر على الخير، والندم على الخطأ، ثم العمل الدؤوب، كل هذا يجعل قلبك مطمئنا، وعقلك صافيا، وروحك هادئة. تهيء ليوم جديد، فتحقق توازنا داخليا وسكينة روحية تجعلك ترتاح، لأنك تحس بثقل قد انزاح وهم قد انفرج، يقول المولى عز وجل في سورة الرعد [28]: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ. الاستغفار كالمطر الذي يغسل الغبار ويروي الظمأ ويزيل الشوائب ويجعل الأرض تثمر.
قد تراجع نفسك يوميا؛ تتوب وتقلع عن الذنب، وتحسن النية وتصفيها، فلا تبخل، لأن كثرة الاستغفار قد تكون طريقك إلى الفوز والنجاة، أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “طوبى لِمن وجدَ في صَحيفتِهِ استغفارًا كثيرًا” 2.
حينما يقول المولى عز وجل في سورة نوح [10 – 12]: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا، فاعلم أن عطاء الإله لا ينفد، يرزقك ويمدك بلا حساب. تروى أرضك، تسقى أشجارك وتزهر، وتمتلئ أنهارك، تضخ فيك دماء جديدة نقية، ترتوي عروقك وتطرد عشائش شيطانية تراكمت بالغفلة واللامبالاة، استغفارك يعود بالنفع عليك وعلى غيرك، على محيطك، فكيف إذا لقيت المولى عز وجل وهو فرح بتوبتك؟
أتريد أن تيسر أمورك؟ اجعل إذن هذه الآية منهج حياتك، يقول المولى عز وجل في سورة هود [3]: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. ألا تحب أن يدفع عنك البلاء، ويفرج عنك الهم، وينفس كربك، ويذهب عنك الضيق، كلنا نحب ذلك وما أحوجنا إليه !
والمداومة على الاستغفار يحبها الله ورسوله، جزاؤها يرى في الدنيا قبل الآخرة، يدل على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث: “منْ لَزِم الاسْتِغْفَار، جَعَلَ اللَّه لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مخْرجًا، ومنْ كُلِّ هَمٍّ فَرجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ” 3.
كل واحد منا يتمنى أن يبدأ يومه كأنه قد ولد من جديد، صفحة بيضاء نقية، وقد بشر رسول الله التائب بهذا الفضل، قال صلى الله عليه وسلم: “التَّائبُ من الذَّنبِ كمن لا ذنبَ له” 4.
والاستغفار ذكر، والذكر يزيد في الإيمان ويقويه لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من الاستغفار كما يكثر من باقي الأذكار. فهو رجوع إلى الله بثقة ويقين، قرب من المولى ونجاة، فوز وجزاء، فطوبى لمن لزم الاستغفار وقبلت توبته.
يقول الإمام عبد السلام ياسين: “الإسلام رحمة. وبابها للعصاة والغافلين ومن يعلم الله عز وجل ما في قلوبهم من هذه الفئات المختلفة في مجتمعاتنا هو التوبة.
في انتظار أن يأتي الحكم الإسلامي بالرحمة الموعودة تحت ظل الخلافة على منهاج النبوة، يتهيأ جند الله، يتبوؤون فسحات رحمة الله، بالإقبال على مولاهم تبارك وتعالى.
وأول الإقبال توبة نصوح بشروطها، وهي العقد مع الله أننا رجعنا إليه نادمين، والإقلاع عما كنا فيه من الفواحش والعصيان وترك الإصرار بعد رد المظالم إلى أهلها” 5.
فاللهم تب علينا توبة نصوحا خالصة مخلصة مطهرة.
[2] أخرجه أبو نعيم في ((معرفة الصحابة)) (10/ 395)، وابن بشران في ((الأمالي)) (1401) واللفظ لهما.
[3] أخرجه أبو داود (1518) واللفظ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (10290)، وابن ماجه (3819)، وعبدالله بن أحمد في ((زوائد المسند)) (2234).
[4] أخرجه ابن ماجة (4250)، والطبراني في ((المعجم الكبير)) (10/ 150) (10281)، والقضاعي في ((مسند الشهاب)) (108).
[5] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ط 2022/5، دار إقدام للطباعة والنشر والتوزيع، استانبول، ص 187.