“لا تقطع رجلك عنا”..

Cover Image for “لا تقطع رجلك عنا”..
نشر بتاريخ

عذرا لأصحاب الترجمة عن هذا العنوان، الذي يطابق مبنى عبارة “أدور تبيت أضارنك فلاخ” بالأمازيغية، لأن بعضا سيجد لها عبارات أخرى أكثر تعبيرا عن معنى العبارة والتي مضمونها “لا تقطع رحمك”، لكنني ارتأيت أن أكتبها بما يقابلها من الكلمات لأحافظ على حرارتها وطاقتها حتى لا تضيع وسط التركيبات اللغوية، ومصدر هذه الطاقة والحرارة أن العبارة ولدت في بيئة قروية أمازيغية بإحدى دواوير الأطلس الصغير، حيث الإنسان يقاوم قسوة الحجارة بدفء العلاقات الأسرية الطافحة بالحنان والعطف والرحمة.

وتزداد هذه العبارة قوة، وجمالا، ورونقا عندما تنبعث من خلجات “عمتي” التي توفيت عام كورونا، رحمها الله من إنسانة فاضلة كريمة، فقد كانت تستقبلنا في بيتها بالدوار، منشرحة الصدر، باسمة الثغر، وهي تصفق بيديها فرحا بقدومنا لزيارتها، فتتهلل أسارير وجهها وهي تنسج كلماتها بخيوط عاطفية قلبية قائلة: “أسف امقورن أياد”، معنى كلامها: “هذا يوم كبير وعظيم”. فباستثناء جميع أفراد العائلة الممتدة، تعتبر عمتي طاقة هائلة من المشاعر والعواطف، كلماتها تطيب الخواطر، وتأسر الوافد عليها ليعاود زيارتها مرات ومرات، حتى إنني استغربت كيف ينبع هذا الماء الزلال وسط تلك الجبال الصماء، بل اكتشفت أن سر تلك التجمعات السكانية في تلك المداشر المنعزلة لن يكون إلا بسبب امرأة تشبه عمتي في قوتها على جمع لمة العائلة مهما كانت امتداداتها، وتفرعاتها، واختلافاتها.

 وأنا أسرد هذه الكلمات ترجع بي الذاكرة إلى عهود مضت عندما تزور عمتي أخاها بالمدينة، فتجتمع العائلة، وأقبع في زاوية من الغرفة المضيئة أراقب اللمة وأتابع أطراف الحديث بين والدي وأخته رحمهما الله، فيطول السمر لوقت متأخر من الليل وكل واحد منهما يسترجع ذكرياته، وينثرها على أسماعنا الطرية، وهي رحمها الله، لا تنفك بين لحظة وأخرى، تقول “هذا يوم عظيم” جاد به الزمان، بل اقتطفناه من عناقيد الزمن المتسارع، لا زالت تلك اللحظات تسكن في مخيلتي، وترقد في داخلي، بعد أن انتقل رواد تلك اللحظات الجميلة إلى الدار الآخرة رحمهم الله، لتبقى الذكريات سلواننا في غربتنا اليوم عن معاني اللمة العائلية، التي شردت منا، على حين غفلة منا، في وسط الشواغل والسوارق ونوافذ النت.

أتذكر مجالسها تلك التي أفرح بحضورها، حيث تحظى عمتي بمكان وثير في قلب الغرفة، وصينية الشاي ترصع المشهد كنجمة الصباح التي لا يعرفها إلا سكان تلك البوادي الجبلية، فيبدأ السمر، وتتوقف عقارب الساعة إجلالا لهذه اللحظة المهيبة، فتمر الساعات مسرعة وخفيفة، وهم ينتقلون بين ذكريات عهد الصبا والشباب، حيث لا كهرباء ولا تلفاز يؤنسهم، بل قل يشغلهم عن بعضهم، وإنما قنديل الزيت أو الكاربون يضيء لياليهم، فيتحلقون حوله، قبل وصول مصباح الغاز إليهم، وأنا أتابع حكايات المجلس بنهم وحرص شديدين، كثيرا ما كنت أنتظر ختامه بفارغ الصبر لأخلد للنوم الذي يهجم علي فأقاومه وأقاتله حتى لا يسلبني جمال هذه اللمة العائلية، وأكثر ما يثير انتباهي في آخر هذا السمر العائلي أن ختم اللقاء أو اللمة يكون بدعوات طيبات على لسان عمتي، فرغم وجود الرجال تأخذ الكلمة، إكراما لها وتقديرا لمكانتها، فتدعو للآباء والأجداد الذين تم ذكرهم في اللمة، ولا تنس، رحمها الله، الدعاء للأبناء والأحفاد بالصحة والسلامة والخير، وتختم دعاءها بـ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ثم الصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ليظل، بعد ذلك، التساؤل في ذاكرتي عن كيفية حفظها لهذه الأدعية بالعربية وهي الأمازيغية القحة أبا عن جد.

وأنا أسترجع صورة “عمتي” التي تذكرنا في كل لقاء معها بأن: “لا تقطعوا أرجلكم عنا” بأمازغيتها الأصيلة، أتخيل أن كل قرية في الأطلس الصغير، بها امرأة مثل عمتي، تبتسم في وجه زائريها، وتصفق بيديها، وترسل أشعارها، بكلمات تنبع من قلبها، صافية، رقراقة، متوهجة لتجمع حولها القلوب، وهي بذلك تجمع ما تناثر من أفراد العائلة، كما يجمع الخيط الناظم حبات مسبحة بين أصابع عابدة وهي تسبح وتحمد خالقها وبارئها. بل إنني أخال أن جمع لمة العائلة هبة من بها الرحمان على المرأة خاصة، فأيما عائلة أو قبيلة انفرط عقدها فلغياب امرأة على شاكلة عمتي، تقرب البعيد، وتداوي الجراح بابتسامتها، وتصبر على جمع ما تفرق من أفراد العائلة رغم خصوماتهم واختلاف وجهات نظرهم.

” لا تقطع رجلك” عبارة تشبهها نظيرتها “سلكمات لقدام”، أي “صلوا أقدامكم”، وكلها وصايا ثمينة لعمتي عندما نهم بوداعها، وهنا، هنا فقط، تتدفق العواطف، وتنفتح القلوب ويسود الصمت جميع الحاضرين، ونحن ننصت لكلماتها، وهي توصينا ألا نفرط في “تكمات” (الأخوة)، ويزداد الموقف بهاء، وجمالا، وعاطفية وهي تختم اللقاء بدعواتها الصادقة، راجية من “الباري تعالى” أن تبقى الصلة دائمة، ويعجل بلقاء قريب آخر. وتصل حرارة الفراق مداها وهي تسقي كلماتها بدموعها، فتتسرب حرارتها إلى أوصالنا فتحييها، وتمدها بطاقة ومحبة لا تنقضي حتى يحصل اللقاء من جديد.

كانت رحمها الله لا تفتر عن السؤال عن جميع أفراد العائلة الكبيرة، عن صحتهم وأحوالهم، فتبدي سرورا كبيرا وفرحا عارما بما يتناهى إلى سمعها من أخبار الخير عنهم، ولا تتوانى لحظة عن إرسال سلامها وتحيتها لكل واحد باسمه، ولا يمنعها كبر سنها وتجاعيد الزمن على وجهها أن تلف الجميع بعطفها ورحمتها، فدعواتها بالغيب لا تستثني أحدا، وهذا سر القبول الذي تحظى به من الجميع حيث كان هذا ديدنها حتى انتقلت إلى دار البقاء، تاركة ذكراها في قلوب محبيها، ولتصبح عبارتها أملا يتحدى قساوة ظروف الإنسان وجسرا للعبور إلى دفء الأسرة.

غابت عمتي عنا لكن حرارة كلماتها لم تغب، فقدنا دعواتها بلهجتها الأمازيغية المتدفقة لكننا لم نفقد الشوق للاجتماع بها في جنة عرضها السماوات والأرض، رحلت فأصبح ذلك البيت الذي سكنته مهجورا، وانقطعت أقدامي عنه، ويبست تلك الورود ونبات “الحبق” التي كانت ترصع مدخل البيت، وغاب ذلك الصوت الحنون الذي كان يملأ المكان بأناشيده وأشعاره، فقد كان الشعر سليقة في طبعها، يتدفق بسهولة لينهل الجميع من حلاوته ونداوته، لو جمعت أشعارها لتبدى لنا على شكل ملاك ينشد:”لا تقطعوا أرجلكم”، لا تقطعوا صلاتكم وأرحامكم، ولو جمعت كلماتها في ديوان لاستحق عنوانا جميلا، ولا أجمل من “حافظوا على لمتكم”.

 كانت وفاتها، رحمها الله، شبيهة بسكين قطع حبال الوصل ليعلق كل محبيها في أماكنهم، ومدنهم، ودورهم، وأملي أن ينبعث شخص جديد وسط العائلة، بل وسط جميع عائلات الأطلس الصغير، ليجمع الشمل من جديد، ولا أخال هذا الشخص إلا امرأة هادئة، شاعرة، صادقة، حنونة، تشبه عمتي.