“لا أقدر أن أوفي الرجل حقه لأن أياديه علينا سابغة”. 1.
خمس وخمس
منذ خمس سنوات رحل رجل عرف الله. رجل أمضى خمسة عقود يكتشف أسرار النبوة في التربية والبناء وصناعة الرجال. خمسة عقود وهو يجدد علاقة الناس بالوحي والنبوة والعدل والإحسان. ينصح ويبنى ويعلم ويربى ويجاهد حتى أتاه اليقين.
لقد بَشَّر الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله منذ بداياته الأولى بحديث الخلافة على منهاج النبوة؛ حديث من ورائه بل في جوهر فلسفته دعوة لتغيير الإنسان والمجتمع والنظام العالمي على قواعد الحرية والعدل والكرامة.
يقول رحمه الله: “التحدي المستقبلي الثقيل في حق الدعوة هو حمل الرسالة لعالم متعطش. وزنُنا السياسي، ولو ثقُلَ بعد زوال وصمة الغثائية، لا يوازي وزننا الأخلاقي الروحي بوصفنا حملة الرسالة الخالدة. بوصفنا مبلغين عن رب العالمين وعن رسوله الأمين. وهو تحدّ لا تقوم له الأمة إن لم يكن التحدي الفردي الذي يُهيب بالمومن والمومنة أن يتجردا من عبودية النفس والشيطان، وأن يتحررا من سلطان الهوى فيبرَآ من مرض الغثائية وداء الأمم وما ينجر إليهما من آفات” 2
الإمام جمع ما عد جمعه مستحيلا
منذ أوائل السبعينات من القرن الميلادي العشرين، أواخر القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر الهجري الذي يصفه “بقرن الإسلام”، اجتهد الإمام المجدد عبد السلام ياسين في عرض المنهاج النبوي من خلال حركة متئدة وصابرة ومصابرة ومبشرة؛ سواء باعتماد اللقاء المباشر أو القول المسموع أو المرئي أو المكتوب، وقبل ذلك ومعه بالموقف الشاهد بين الناس وعلى الناس.
بذل رحمه الله جهدا استغرق سنوات لترصيص هذا الاجتهاد، وتنظيمه، وتوضيحه، وتفصيله، واستشراف آفاق تنزيله، إلا أن من مفارقات – أستغفر الله – موافقات هذا التجديد أنه جمع ما عد جمعه مستحيلا:
* فهو يرفض النظام السياسي القائم ورغم ذلك أسس تنظيما علنيا.
*وهو يسعى إلى التغيير الكلي ومع ذلك فمنهجه سلمي.
*ويعد تنظيمه تنظيما حديثا عصريا ومع ذلك فهو مؤسس على “التربية أولا ووسطا وآخرا ولا آخر ودائما”.
*“وجماعته تعد أكبر التنظيمات الممارسة للعمل السياسي في بلده ومع ذلك فهي لم تتنازل عن العمل المبدئي”. 3
الإمام القائد الرباني
أنعم الله على الإمام بالجمع بين التربية الإحسانية والقدرة على التنظير والنظر في تاريخ وحاضر المسلمين وعلى بناء تنظيم مبارك حرص أن يبث فيه أن السياسة مهما بلغ شأوها فهي لا تمثل إلا بعض شأنه، وأن الخطوة الأولى لإمامة الأمة هي الصحبة والجماعة، هي لقاء رجل يربيك وجماعة مؤمنة تؤويك وتحضنك. فكان رحمه الله قائدا ومرشدا جمع بين خاصيتي الربانية والكفاءة الجهادية الحركية والقدرة على تنظيم الرجال وتربيتهم تربية تضع الإيمان في القلوب والحكمة في العقول والقوة في الجسد. يقول رحمه الله:
“الله سبحانه وحده قادر على أن يعيد ما تفرق من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم لتتجمع الأمة كلها خلف قيادة، في شخص أو أشخاص، في زمن أو أزمان، جامعةٍ للوراثة المحمدية الروحية والجهادية، لاَمَّةٍ لِشَعَثِ ما تَفَرق، مُحْيِيَةٍ لقلوب ماتت، باعثةٍ لهمم هَمَدت وخَمدت، منوِّرة لعقول أخذها الجُهد لتصور “البدائل الإسلامية”، وتحليل الواقع، ووضع الخطط، وإحكام التنظيم، ومواجهة العدو الداخلي والخارجي، عن ذكر الله وعن الصلاة” 4
لقد كان رحمه الله قائدا ربانيا بذل الوسع كله في بناء جماعة العدل والإحسان مشتغلا على كل واجهة على الرغم من المضايقات والاعتقالات والحصار حتى اشتد عود الجماعة وفُتل حبلها المتين.
الإمام المجاهد
في أوج سنوات الجمر والرصاص سنة 1974 وجه الإمام المرشد، وهو يومها أعزل إلا من إيمانه، فلا رهط يحميه، ولا عشيرة حزبية أو حقوقية تنافح عنه وتتبنى مظلوميته، وجه رسالة للملك الحسن الثاني رحمه الله الناجي يومها من محاولتين انقلابيتين عسكريتين، يدعوه فيها إلى التوبة سماها: “الإسلام أو الطوفان”، فزُجَّ به في “زنزانة” بمَشفى الأمراض العقلية حيث قضى رحمه الله ثلاث سنوات ونصف سنة بين مُختلِّين عقليا ومرضى صدريين ثمن إقدامه على نصيحة الحاكم ودعوته ليقود إصلاحا حقيقيا يدشن لعهد الحرية والعدل والعزة.
بعد هذه الرسالة بحوالي تسع سنوات، وبعد خمس سنوات من معانقته الحرية، وفي صيف 1982، يرد الإمام المرشد على “رسالة القرن” التي وجهها الملك الراحل الحسن الثاني إلى ملوك وأمراء ورؤساء العرب والمسلمين بمناسبة السنة الهجرية الجديدة: 1400 ودخول قرن جديد دعاهم فيها لانبعاث إسلامي، ففضح مغالطات رسالة الملك ودعاه لتفعيل مضمون الرسالة وتنزيلها في الواقع المغربي قبل غيره، من خلال مقال: “قول وفعل” نُشر بافتتاحية العدد العاشر من مجلة “الجماعة” التي كان رحمه الله يتولى إدارتها. اعتبر المقال ردا مباشرا على رسالة الملك الذي تعوّد ألا يرد عليه، ليزج بالإمام المرشد هذه المرة في سجن “لعلو” بتهمة المس بالمقدسات ويقضي وراء القضبان سنتين كاملتين.
بعدها تنامت شعبية الأستاذ عبد السلام ياسين، فعرفه الناس مربيا وعالما وقائدا لتنظيم إسلامي جمع بين قوة الكلمة ووضوحها، وبين رفق الحركة التدافعية وسلميتها، فلما ضاق النظام به ذرعا، فرض عليه الحصار والإقامة الجبرية في بيته بداية من 30 دجنبر 1989 إلى يوم 15 ماي 2000 حين أعلن وزير الداخلية أمام مجلس النواب أن عبد السلام ياسين ليس محاصرا وأنه حر طليق. ودون تأخير جاء بلاغ الإمام المرشد معلنا أنه سيخرج لأداء صلاة الجمعة الموالي (19 ماي 2000) وأنه بيته مفتوح لمن أراد الزيارة.
بعد حصار الشخص لعشر سنوات بدأ حصار دعوته لتلاحق السلطة تحركاته وأنشطته في بيته كما في تنقلاته وخلال زياراته لمختلف مدن المغرب ومناطقه إلى أن لبى الإمام المجاهد نداء ربه يوم 28 محرم 1434هـ الموافق لـ 13 دجنبر 2012م
الحمد لله على قدر الله
كان الإمام عبد السلام ياسين قدرا كريما ساقته الألطاف الإلهية لهذه الأمة في هذا العصر. قدر بشر بعودة الخلافة على منهاج النبوة، بشارة تعليم وتذكير ببشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلتها بشارة عملية ببناء صرح جماعة عاملة ومدرسة شاملة لخدمة دعوة الله القدرية للأمة بالعودة إلى الخلافة الراشدة، ابتداء من صحبة وجماعة وصحبة في جماعة.
في ديوانه “شذرات” قال رحمه الله:
وَعَظْتُكَ نَثْرًا وَعَظْتُكَ شِعْراً
وَعَظْتُكَ بِالصُّبْحِ وَالْغَلَسِ
دَعَوْتُكَ تَصْحَبُ جَمْعَ الْخِيَارِ
وَتَذْكُرُ رَبَّكَ فِــــــــي أُنُسِ
وَتَطْلُبُ وَجْهَ الإِلَهِ بِصـــِدْقٍ
وَتَبْذُلُ نَفْسَكَ فِـي الأنْفُسِ
رحل الإمام المجدد عبد السلام ياسين جسدا وبقي حيا في قلوب تلامذته ومحبيه، يدلون عليه ويدل عليهم، يترجمون أقواله وأفعاله وأحواله بالعمل، للارتقاء في مدارج القرب عند رب العالمين وهو الذي قال رحمه الله في كتاب الإحسان: “أنا أسعد الناس إذاً إن حصل في ميزان حسناتي أفواج من المحسنين كنت لهم صوتا يقول: من هنا الطريق، من هنا البداية...”. 5
وصلى الله وسلم وبارك على خاتم الأنبياء والمرسلين والحمد لله رب العالمين.