كيمياء الذِّكْرِ (1)

Cover Image for كيمياء الذِّكْرِ (1)
نشر بتاريخ

لطالما حَدَّث الواحد منا نفسه عن الاستقامة ولزوم باب الله تعالى، فحملته هبَّتُهُ الروحية إلى الإقبال على الله والأعمال الصالحة، لكن سرعان ما ينتكس حاله فيكتشف أن الواقع أقوى من إيمانه وأن الدنيا بكل مفاتنها تخطب رغباته وشهواته من كل جانب، فتستوطن قلبه وتستولي على إرادته وتتحكم في سلوكه. مشهد قد يتكرر كثيراً على مسرح الحياة ولا يعرف صاحبه سبيلا لتشخيصه وتحديد دوائه؛ لماذا رغم إيماننا نستسلم لأهوائنا وتجرفنا سيول الدنيا بكل مباهجها إلى حد ارتكاب المعاصي وتعدي حدود الله؟ والجواب إنها الغفلة عن الله التي نبه إليها سبحانه في سورة ”ق“ في موضع قوله: لقد كنت في غفلة من هذا وحذر من اتباع أهلها في سورة الكهف ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا.

إن مكمن الداء والدواء هو القلب كما نص على ذلك خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: «… ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب»، فالقلب إما أن يكون مقفلا مظلما ميتا لا حياة فيه، وإما أن يكون مُشْرَعاً يدخله نور الله الحي ليبعث فيه الحياة «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت» هكذا كان التمثيل النبوي الذي أكد في موطن آخر «إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد وإن جلاءها ذكر الله وقراءة القرآن» هي إذن قلوب تقفل وتصدأ ثم تموت، فتحتاج إلى كسر أقفالها ثم صقلها حتى تولد من جديد وتذب فيها الحياة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بذكر الله تعالى.

قد نتحدث عن الإيمان بما هو نور ينقدح في القلب، وقد نتحدث عن التقوى بما هي خشية لله، وقد نتحدث عن الإحسان بما هو رؤية الله في كل شيء واستحضاره في كل فعل، لكن الإيمان كما أخبر طبيب القلوب المصطفى صلى الله عليه وسلم يَبْلَى ويصبح رَثّا في قلب صاحبه مع توالي الأيام وانقطاع الوِرد والوارد: «إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب…» فإذا بلي الإيمان انعدمت التقوى وخفت حضور الله وهجمت الدنيا على القلب واستحال جندا من جنودها وأداة طيعة لدى النفس الأمارة بالسوء. ما الحل يا سيدي يا رسول الله يا طب القلوب وشفائها ونور الأبصار وضيائها؟ يوصي عليه الصلاة والسلام بالوصفة الناجعة في قوله صلى الله عليه وسلم: «فجددوا إيمانكم، قالوا وكيف نجدد إيماننا يا رسول الله قال أكثروا من قول لا إله إلا الله». دواء غفلة القلوب وظلمتها وصدئها وموتها هو ”ذكر الله“ لا دواء غيره ولا يوجد أي دواء جَنِيسٍ له؛ ذكر الله فقط! إنه العبادة الوحيدة التي أمر الله بالإكثار منها في كل الحالات وعلى جميع الوضعيات اذكروا الله ذكرا كثيرا الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والارض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار.

فما هي حقيقة ذكر الله إذن، هل هو مجرد تلويك باللسان؟ بالقطع لا، إنه كيمياء روحية تنتقل نورانيته من اللسان إلى القلب فتذيب أقفاله، وتصقله وتجلي منه الصدأ ثم تملؤه نورا فيستعيد حياته، هي إذن عملية كيميائية روحية تتطلب جرعات كثيرة وفي كل الأوقات ودونما انقطاع، هي عملية تروم أولا تطهير القلب من كل ذرن عن طريق ذكر الاستغفار، وتهدف ثانيا إلى تنويره عن طريق الإكثار من الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم تتغيا تعميره بواسطة الإكثار من الكلمة الطيبة «لا إله إلا الله». قد يقول قائل وكيف يحصل كل هذا بمجرد ترديد عبارات وألفاظ؟ والجواب كيف يتمكن قرص صغير أو نصفه من تجاوز وعكة في عضلة القلب فيطهر شرايينه من الجلطات ويعيد له نبضاته الطبيعية، فيخرج المريض من حالة الأزمة إلى حالة التعافي؟ نفس تأثير الكيمياء المادية بل وأكثر يحصل مع الكيمياء المعنوية لذكر الله تعالى في القلب. لكن لماذا الإكثار الذي لا حد له؟ هناك فرق بين يقظة القلب وولادة القلب، فيقظة القلب قد تحصل بذكر محدود في الزمان لكن ولادته المتجددة تحتاج إلى كثير من الذكر تماما كما يحدث مع الإنسان عند ولادته فمن بين ملايين الحيوانات المنوية يخترق واحد منها البويضة لتُشَكّل حياة كائن جديد، وقياسا على ذلك فإن قلبك في حاجة إلى ملايين من «لا إله إلا الله» لعله يصادف واحدة نطقتها مخلصا في حال صفاء وإقبال على الله فيولد قلبك ويدخل جنة الله، وصدق ابن تيمية رحمه الله تعالى حين قال «من لم يدخل جنة الدنيا لم يدخل جنة الآخرة»؛ فالإكثار من لا إله إلا الله هو ذلك البحث الدائم عن التوافق مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال لا إله إلا الله مخلصا من قلبه دخل الجنة» شرط الإخلاص معناه أن تخرج خالصة من القلب، لهذا كَرّسَ الذاكرون حياتهم للذكر حرصا منهم أن تنطق من بين الآلاف والملايين كلمة لا إله إلا الله مخلصا من القلب الحي الوجِل والمعظم لجلال وجه الله سبحانه.

بذكر الله تطمئن القلوب، وبه تسكن الجوارح، ومعه يكون الحضور الدائم مع الله، فهو يمنحك الحصانة والأمن الربانيين كما جاء في الحديث القدسي «لا إله إلا الله حصني ومن دخل حصني أمِن عذابي»، وهو أيضا يشغل لسانك ويملأ قلبك ويجعلك في مجالسة دائمة للمذكور سبحانه والذي قال في حديثه القدسي «أنا جليس من ذكرني» فكيف لمن يستحضر مجالسة الله له كما يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه أن يفرغ من الطاعات كي يفكر في الخطايا والسيئات؟

ولادة القلب مع دوام يقظته بذكر الله تنقل صاحبها إلى مقام الإحسان فيعبد ربه كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، هي إذن شدة المراقبة والحضور الدائم الذي يرى فيهما الذاكر فعل الله فيه وفعل الله في الكون من حوله، ذكر الله هو استحضار لمقام الوقوف بين يدي الله، هذا الاستحضار هو الكفيل وحده بنَهْي النفس وثنيها عن هواها بدليل قوله تعالى: وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى مقام الخوف والخشية من الله، ومقام رجاء الحُظْوَة والقبول عند الله لا يتحققان إلا بالإكثار من ذكر الله، لماذا؟ لأن محط نظر الله هو القلب، ومحل الإيمان هو القلب، ومحضن المحبة هو القلب، موطن الرحمة الإلهية هو القلب..! وكلها أرزاق لا يضعها الكريم الحكيم إلا في إناء قلبي يليق بها ويستحقها، فيا من تطمع في محبة الله ورحمته هل طهرت قلبك وصقلته وزينته حتى يصير أهلا لنظر الله سبحانه؟ هل عكفت على قلبك واستفرغت الجهد له واختليت به في جلوات الدنيا لتطهره وتنوره وتعمره استعدادا للقاء الله، كيف ستلقى ربك، هل ستلقاه بقلب سليم وبقلب منيب؟ أم تراك ستلقاه بقلب غافل أو بقلب منافق مدبدب بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؟

وحدهما ذكر الله والكينونة مع الذاكرين من يضمنان لصاحبهما البراءة من الغفلة والنفاق ويؤَمِّنان له حياة طيبة مطمئنة في الدنيا وظلا تحت عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله، فالذاكر من السبعة المبشرين: «ورجل ذكر الله ففاضت عيناه من خشية الله». لا مناص إذن من الانشغال بالذكر في أعمالنا والاشتغال بالذكر عندما نفرغ من أعمالنا فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب وأفضل أوقات الفراغ جوف الليل عندما يحجب الظلام زينة الدنيا ويُسكت صخبها وأهلها ولهوها، حينها تكون باب الله فارغة ولا زحام عليها والخلق نيام وأنت جالس أو واقف بين يدي الله تناجيه وتذكره راجيا أن يدخلك في محبوبيته ويجعلك من المُرادين عنده، وحده ذكر الله مع صحبة الذاكرين وصدق الطلب من يكفل لك مقعد صدق عند مليك مقتدر. فكن على منهاج سيد الذاكرين وسيد الصابرين واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا لا بد لك مع الذكر من صحبة أصحاب القلوب حتى يكون لك قلب، ولا بد لك من صدق الطلب، وأعظم ما يطلب بعد الاستقامة وجه الله سبحانه. لا تجعل ذكرك يجري وراء الأحوال، بل وَطِّنهُ على الترقي نحو المقام ولتكن وجهة القلب السير الدائم إلى الله حتى يلقى الله!

فاللهم كما خلقت قلوبنا ارزقنا دوام حياتها واكسر أقفالها ونَوِّرها بذكرك ونورك، وأنزل عليها رحمتك وسكينتك، واجعلها محط نظرك فنظرة منك إلى قلوبنا ترفعها إلى مقام الأنس بك وعدم الغفلة عنك، فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين فنحن ضعفاء فقراء إليك، هَبْنَا للذاكرين ولا تتركنا مع من أغفلت قلوبهم عن ذكرك، فلا حول ولا قوة إلا بك، أخرجنا من أحوالنا وأدخلنا في حولك وقوتك، وأدخلنا إلى ذكرك مدخل صدق، وارزقنا في ذكرك لسان صدق وارزقنا صحبة الذاكرين الصادقين، آمين يا رب العالمين.