قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (الفرقان، 74).
تعرف قرة العين بأنها “ما يصادف المرء به سرورا فلا تطمح العين إلى ما سواه” (معجم المعاني الجامع)، وقيل أيضا “قرَّت عينُه؛ بَرد دمعُها، ضدّ سخُنت، ويُكنَّى به عن السرور والابتهاج، وقيل لأنَّه للسّرور دمعة باردة وللحزن دمعة حارّة” (معجم اللغة العربية المعاصر)، وقال أبو طالب: أقر الله عينه: أنام الله عينه، أي صادف سرورا يذهب سهره فينام.
ويقصد بها في الآية سؤال المؤمنين ربهم أن يهب لهم أزواجا ويجعل لهم منهم ذرية صالحة تقر بها أعين الأبوين في الدنيا، فتصبح الأسرة قدوة للصالحين المتقين، وبذلك تسكن النفس وترضى بما وهبها الله تعالى من الولد الصالح، الذي هو من عمل الإنسان، فالهداية الإلهية يُقيض الله لها بشرا يهدون.
الأمومة والأبوة مسؤولية
ومما يفهم من الآية أنه يجب على الوالدين أن يربطا أولادهم بالحق سبحانه وتعالى، فإن ضلوا أو عجزوا عن ذلك استعانوا بصحبة المنيبين يربطون بها أنفسهم وأزواجهم وذرياتهم، وهذا ما يقصد من قوله تعالى في الآية 6 من سورة التحريم: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة، فالإنسان مأمور بوقاية نفسه وأهله، الذين هم زوجه وأولاده، وبتعهدهم بالطاعات وفعل المأمورات وترك المنكرات.
والذرية الصالحة كالشجرة الصالحة المثمرة لا تنبت إلا في وسط صالح عماده أسرة متينة، والمتانة أمومة مصونة ومربية تصنع مستقبل العزة لجيل هذه الأمة، “التربية أبوة وأمومة، وفطرة يورثها جيل سالم لجيل ناشئ يتعرض للتلقي، ويقبَلُهُ، ويمتص، ويرشف، ويرتوي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة: “ما من مولود إلا يولد على الفطرة”. ثم يقول: “اقرأوا: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ. زاد البخاري: “فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه”. وفي رواية لمسلم: ‘ويشركانه'” (1).
الأم هي المصدر الأول للتربية والحنان، فهي تحمل وليدها في بطنها ثم تخرجه إلى هذه الحياة بإذن الله تعالى وترضعه من لبنها، وتأخذ بيده منذ نشأته إلى بقية مراحل ترعرعه، وهي بذلك قمينة أن تلقن ولدها بذرة الإيمان من فترة الحمل، وتعلمه أطايب الكلام، وتربطه بكلام العزيز المنان إنصاتا وتلقينا، وتزرع في قلبه حب الله ورسوله، تزرع البذرة وتسقيها بعناية ورعاية حتى تكبر ويشتد عودها فتزهر وتثمر، كالشجرة الطيبة المثمرة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
ويقع على الأب ما يقع على الأم من مسؤولية تربية أولادهما، وغرس القيم فيهم وتعزيزها ورعايتها، فكما أنه مسؤول ماديا على الكسب الحلال الطيب فهو مسؤول أيضا على أسرته معنويا، لذلك كان لزاما عليه أن يخصص لهم من وقته جزءا، يجالسهم ويحادثهم ويشاركهم تفكيرهم ومشاغلهم، يلقنهم الفضائل الإسلامية قولا وحالا وعملا، يدلهم على مواطن الخير، ويوجههم إلى الطرق السليمة لبلوغها، يراقبهم الرقابة المُوَجِّهة لا المُواجِهة، يؤدبهم دون تعنيف أو تحقير، وينفق عليهم مما أنفق الله عليه، ويغشاهم بحبه وعطفه، فيحسون بالرعاية والحماية والعطف، ويتمثلون الأب قدوة صالحة.
ولن يكون الولد قرة عين، صالحا مصلحا، إن لم يكن ثمرة جهد أسرة متكاتفة متعاونة، فلا ينشأ كغثاء السيل بدون توجيه وتربية، في وسط سِماته الأساس أخلاق منحلة وإعلام مفسد وشارع سائب ورفقة مضللة.
الولد عمل والديه
ثبت في صحيح مسلم، عن أبي هُرَيْرة – رضِي الله عنْه – عن النَّبيِّ – صلَّى الله عليْه وسلَّم – أنَّه قال: “إذا مات ابنُ آدم انقطع عملُه إلاَّ من ثلاثٍ: صدقة جارية، أو علْم ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدْعو له”، فجعل الولد عملا، والعمل مسؤولية الأبوين، فهما مسؤولان عن صلاح هذا العمل أو فساده.
قال الله سبحانه وتعالى يخاطب سيدنا نوحا عليه السلام لما سأله في ابنه قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ (سورة هود، الآية 46). فجعل الولد من عمل المرء، وذاك ولد لم يقصر والده عليه السلام في إرشاده للخير، فارتفعت مسؤوليته وبقيت مشيئة الله سبحانه وتعالى.
التربية المثمرة
يتبادر إلى أذهاننا سؤال ملح؛ هو: كيف تكون تربيتنا مثمرة؟ إن أول ما يمثل الحصانة لأطفالنا إحاطتهم بالمحبة، والاحتواء، والمشورة في سن معينة، والإكبار، والدلالة على الخير بالحال؛ فرب عمل يراه الابن خيرا من قول يتكرر ولا يتجلى في الوالدين، ثم لا ننسى، ونحن نبذل الجهد الحثيث في اتخاذ الوسائل الناجعة للتربية والتوجيه، أن نربطه بصحبة صالحة تعينه على الحق.
ولابد لنا من أن نربط همّ أولادنا بالآخرة، فلا نجعل هدف تربيتنا لهم مجرد إعداد مواطن صالح منتج مفكر عامل لازدهار شخصيته ومجتمعه.. بل نجعل أكبر همنا أن ندلهم على الله تعالى وعلى خبر الآخرة، ونقوي فيهم المعاني القلبية الروحية حتى يدركوا غاية وجودهم في هذه الحياة.
فالتربية المثمرة هي التي توقظ القلب من غفلته وأنانيته وتنير عقله بالعلم والإيمان ليكون عبدا لله، لا عبد الهوى والنفس الأمارة بالسوء والشيطان.
هكذا يكون الولد الصالح قرة عين والديه وثمرة مجهوداتهما، ينعمان ببره وصلاحه وسنده في الدنيا، ويذخرانه للآخرة. وبه وبأمثاله تحيى الأمة الإسلامية وتنهض لصناعة مستقبلها وعزها، يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: “في دولة القرآن ينبغي أن يُحْسَبُ ربحُ الأمة وفوزُها بحساب من فيها من العلماء العاملين المحسنين أصحاب القلوب النيرة. ثم بعد ذلك يُحْسَبُ من معها من رجال الخبرة العملية. فإن اجتمعت في الرجل الواحد كفاءتا القلب والعقل، كفاءتا الإيمان والعلم فذاك هو المطلوب: أقوياءُ أمناء” (2).
الهوامش:
(1) عبد السلام ياسين، كتاب “سنة الله”، ص 264. رابط الصفحة على موسوعة سراج:
http://siraj.net/سنة-الله-24.264.q.إنها+الأسبقية+المطلقة+للتربية+والتربية+أبوة+وأمومة.html#page/264
(2) عبد السلام ياسين، كتاب “إمامة الأمة”، ص 152. رابط الصفحة على موسوعة سراج:
http://siraj.net/إمامة-الأمة-25.151.q.في+دولة+القرآن+ينبغي+أن+يحسب+ربح.html#page/151