شهد العالم خلال الحربين العالميتين أحداثا مأساوية وأعمالا دموية آذت الضمير الإنساني، مشاهد حركت من بقي فيه ذرة من المشاعر الآدمية فكانت صرخته إيذانا بولادة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي تبنت بنوده أغلبية الدول؛ إن لم تكن اقتناعا فخجلا من خزي المعارضة.
جاء هذا الإعلان لتوطيد الحقوق والحريات واحترام الإنسان وكرامته، حيث جعل من هذا اليوم مناسبة سنوية لتدارس حصيلة تطور حقوق الإنسان في العالم، كما أنه أصبح مقياسا وميزانا لتصنيف الدول في سلم التقدم.
ولئن كانت جرائم العقود الماضية قد أحيت الضمير العالمي فإن جرائم عصرنا الدموية المهولة والهمجية المفجعة قد أماتته.
فتحت أنظار كل الدنيا ترزح أمتنا المهزومة تحت نير الاستعمار – وإن سميت الدول مستقلة زورا وبهتانا – والاستبداد؛ تكابد المحن وتعاني الويلات، وما بلدنا إلا واحد من البلدان التي يعاني شعبها القهر والفقر والطغيان.
نستقبل الذكرى السنوية 71 لليوم العالمي لحقوق الإنسان وما تزال المقاربة الأمنية هي الحل الوحيد والأوحد في مواجهة كل المواقف وفي كل الملفات؛ قمع حراك الريف السلمي ومحاكمة ناشطيه بقرون من السجن، وأيضا حراك جرادة وكل الحراكات المجتمعية على طول وعرض الوطن والتي مست فئات عريضة من المجتمع، استعمال القضاء – الخاضع للتعليمات الفوقية – لتصفية الخصوم السياسيين من كل المشارب بتهم أخلاقية.. ومضايقة البقية، قمع حرية التعبير ومحاكمة صحافيين، تشميع بيوت مواطنين بدون سند قانوني وتركها عرضة للنهب والسرقة ومبيت المشردين، حصار الحركات المعارضة السلمية ومنع أعضائها من الحركة الحرة ومن الفضاءات ومن الإعلام.. إعفاءات أطر ثبتت كفاءتها في مجالات شتى بسبب انتمائها الفكري، التمادي في استعمال العنف ضد محتجين سلميين لا يشكلون خطرا، حد القتل وإفلات الجناة من العقاب وطمس ملفات أصحابها..
انتهاكات صارخة لحق الإنسان في الحياة الكريمة، وحقه في الإحساس بالأمان، كما تنص المادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: “لكل شخص حق في مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة والرفاهة له ولأسرته، خاصة على صعيد المأكل والملبس والمسكن والعناية الطبية والخدمات الاجتماعية الضرورية، وله الحقُّ في ما يأمن به الغوائل في حالات البطالة أو المرض أو العجز أو الترمُّل أو الشيخوخة أو غير ذلك من الظروف الخارجة عن إرادته والتي تفقده أسباب عيشه…”.
هذه المقاربة الأمنية، والاستفراد بالسلطة والجمع بينها وبين المال، وإقصاء مكونات الشعب من مواقع القرار، وجعل المؤسسات الممثلة للشعب صورية تابعة.. صنعت فجوة سحيقة بين الحاكم والمحكوم، ونتج عنها علاقة يسودها التوتر الرهيب، سقطت فيها الثقة كأول ضحية لسياسات القمع والتهميش والتعذيب والترهيب..
إن حق الإنسان في العيش الكريم بعد حق الحياة يعتبر ضرورة لا اختيارا، وهو حق سماوي لا مَكرُمة. لذا كان لزاما على من هم في موقع المسؤولية صونه وتقديسه، لا انتهاكه أو سلبه.
ونحن اليوم في أمس الحاجة إلى من يقنع الشباب بغد أفضل ينسيه الماضي الأليم، من ينشر خطاب الأمل عوض اليأس المنتشر؛ حاصد الأرواح في عرض البحر أو تحت مشانق الانتحار.. من يستطيع إنعاش الثقة التي فقدت أو بالأحرى قتلت بين مؤسسة الحاكم والشعب المحكوم.
ولأن أصل الداء باق على عهده في التمسك بالنهج الاستبدادي، ولا خلاص منه يبدو في الأفق، وسياسة الأذن الصماء هي السائدة في هذا البلد الظالم حكامه الشقي أهله، فإنه لا مفر من تكتل إرادة الأحرار والضغط من أجل الخروج من براثين هذه الأزمة الخانقة، بحثا عن النجاة من طوفان، إن حل لا قدر الله تعالى، فإنه قد يحصد الأخضر واليابس. ولا مفر لجميع الفضلاء من كل الأطياف؛ المدنية والحقوقية والسياسية والاجتماعية.. من تلبية نداء الوطن والعمل من أجل صناعة غد أفضل؛ غد يشرق بشمس الكرامة والحرية.