كلمة رئيس الدائرة السياسية الأستاذ عبد الواحد متوكل في “مقدس 17”

Cover Image for كلمة رئيس الدائرة السياسية الأستاذ عبد الواحد متوكل في “مقدس 17”
نشر بتاريخ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه وإخوانه وحزبه

إخواني الكرام، أخواتي الكريمات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بسم الله الواحد الأحد، الفتاح العليم، نفتتح الدورة السابعة عشرة للمجلس القطري للدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان، التي تنعقد يومي السبت والأحد تاسع وعاشر ربيع الأول سنة خمس وثلاثين وأربعمائة وألف الموافق للحادي عشر والثاني عشر من شهر يناير 2014.

نسأل الله أن يبارك لنا فيه وأن يجعلنا من المسددين أقوالا وأفعالا، آمين.

نرحب بالحضور الكرام، أعضاء مقدس، من سبق منهم ومن لحق، ونرحب بمن حضر من مسؤولي الجماعة، إخوة وأخوات،وعلى رأسهم السيد الأمين العام، الأستاذ محمد العبادي، وباقي الإخوة من مجلس الإرشاد، وأعضاء هيئات الجماعة ومؤسساتها الذين حضروا لمتابعة أشغال هذه الدورة. بارك الله في جهود الجميع وتقبل من الجميع.

نحيي ونواسي كل من نالهم من الحكم الجائر نصيب، من السجن أو الاعتقال أو غير ذلك من صنوف الأذى والعدوان، ونخص بالذكر الأخ عمر محب، فرج الله عنه، وأجزل له الأجر والثواب.

نحيي ونواسي كل الصامدين في وجه الطغيان أينما كانوا، لاسيما في فلسطين الحبيبة، وأرض الكنانة، مصر العزيزة، وسوريا الجريحة، وفي كل البلاد المبتلاة بأنظمة الجور والطغيان. نسأل الله أن يفرج عن أمة الإسلام، وأن يمن عليها بنصر مبين، وفتح قريب آمين. كما نسأله عز وجل أن يحفظ أهل تونس وليبيا من كيد الكائدين ومكر الماكرين حتى يتحقق لهم المأمول من العزة والكرامة والحكم الرشيد.

ونحيي ونشكر كل الهيئات والمنظمات والشخصيات التي تدافع عن حقوق الإنسان وكرامة الإنسان دونما تمييز، وقد كانت العدل والإحسان و ما يتعرض له أعضاؤها من حيف حاضرا في تقاريرها وبلاغاتها.

ونترحم على من سبقونا بإيمان ومن سبقونا إلى الدار الآخرة من الإخوة والأخوات، ونخص بالذكر الإمام المجدد، والمجاهد الفذ سيدي عبد السلام ياسين رحمه الله رحمة واسعة وجعله في أعلى عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. كما نسأله عز وجل أن يتغمد برحمته كل الشهداء الذين سقطوا دفاعا عن الدين، ونشدانا للحرية والعدل والكرامة في كل بلاد الإسلام.

أيها الإخوة، أيتها الأخوات:

سأتناول في هذه الكلمة ثلاث نقاط: واحدة تتعلق بجذور الاستئصال ومنظريه؛ والثانية بالحوار ومقتضياته وأما الثالثة بشعار الدورة وبعض ما يوحي به. فأقول وبالله التوفيق.

إخواني أخواتي:

تنعقد هذه الدورة وقد مضى على ما يسمى بالربيع العربي ثلاث سنوات. كانت البداية، كما تعلمون، من تونس، ثم انتقلت الشرارة إلى بلاد غيرها، فانهارت أنظمة، واهتزت أخرى، وعاد الأمل إلى الشعوب بعد عقود من الأنين تحت أنظمة الفساد والجبر، الأمل في الخروج من الهامش، واسترجاع المبادرة المصادرة، والكرامة المفقودة والعز التالد . وقد رأى العالم أجمع حيوية رائعة وإبداعا في أساليب فضح المفسدين، ومقاومة الظالمين، مما جعل كثيرا من الخبراء والمختصين يعيدون النظر في كثير مقولاتهم ونظرياتهم حول ما يسمونه، تخرصا وتجنيا، بالاستثناء العربي وخصوصية الثقافة العربية والإسلامية التي يعتبرونها تربة خصبة وبيئة مناسبة لنشوء الاستبداد وتجذره.

وكان الأشد وقعا فجائية الأحداث التي لم تتوقعها مراكز البحث والرصد رغم ما معها من إمكانات هائلة وخبراء ومناهج يزعمون أنها دقيقة للدراسة والتحليل والتوقع، ما حدا بأحد الأكاديميين ليقول هازئا: إن الخبراء هم آخر من يعلم). ثم يضيف قائلا: لم نكن نعد الإسلام شيئا أو يمكن أن يأتي منه شيء حتى فاجأتنا الثورة الإيرانية. وكنا لا نعد المجتمع المدني في العالم العربي والإسلامي شيئا يذكر حتى فاجأنا منه الربيع العربي) [اهـ كلاما مختصرا].

لا أريد أن أتوقف كثيرا عند هذا الحراك المبارك الذي انطلق قبل ثلاث سنوات، وما اكتنفه وما أحاط به وما ترتب عليه، فالتقرير السياسي سيتحدث عن شيء من ذلك. لكن أريد أن أتحدث، بإيجاز، عن اتجاه نافذ في بعض الأوساط الأكاديمية والسياسية والإعلامية والذي يشكل الخلفية الفكرية لنزعة الاستئصال الثاوية في صفوف النخبة الحاكمة في بلادنا، عل ذلك يزيدنا وعيا بما يعترض هذه اليقظة المباركة، وهذا الأمل المشرق إحياء المائت، كما يعبر المرشد، وإيقاظ الوسنان وبناء المهدوم وجدْل المنقوض) (331، العدل).

قبل ثلاث سنوات شاءت الأقدار الإلهية أن أكون خارج الوطن وأتيحت لي الفرصة لأقرأ وأتابع ما يكتب وينشر ويروج في الأوساط الأكاديمية والمؤتمرات حول ما يسمونه بالإسلام السياسي. كنت أعرف كما تعرفون، أن هناك أناسا يعادون الحركة الإسلامية تحت ذرائع شتى، لكنني لم أكن أتصور أن الحقد الأسود على حركة الإسلام قد بلغ مبلغا رهيبا، والعجيب أنه يتدثر بدثار العلمية، ويلبس شعار الموضوعية، وينشر في مجلات ومواقع شهيرة أو في كتب يقدم لها أساتذة بارزون. بل الأدهى من كل ذلك أن يكون لذلك صدى وأثر لا تخطئه العين فيما يعترض هذه الصحوة المباركة، أمل الأمة وأمل المستضعفين. وأكتفي هنا، لضيق الوقت، بالاستشهاد ببعض النماذج.

سيقول أحدهم في تصنيف الحركة الإسلامية: لقد تفاجئنا في هذا القرن [يعني القرن العشري] بظهور الشيوعية والنازية والأصولية الإسلامية). لا أدري كيف صح وضع الحركة الإسلامية جنبا إلى جنب مع الشيوعية و النازية، علما بأن الحركة الإسلامية ومنذ بروزها وهي تتعرض للقهر والحصار والملاحقة، ولم تتسبب في حربين عالميتين راح ضحيتها أكثر من 100 مليون قتيل ولا كانت لها اليد في مأساة هيروشيما وناكازاكي ولا في النهب الرهيب التي تعرضت له أثناء الاستعمار ولا تزال بلدان العالم الثالث عامة، والعالم الإسلامي على الخصوص.

ويقول آخر: الإسلام، أصوليا كان أو غير أصولي، يتعارض مع النظام الديمقراطي على النموذج الغربي ومع حقوق الإنسان). ثم يخلص إلى أنه ينبغي إخماد هذه الحركات في المهد).

وكأن هذه الخلاصة العدوانية لم تكف آخر فاستفاض في الموضوع لينتهي إلى طرح خيارين:

الأول يتمثل في أن تعمل قوات الأمن على اعتقال أو قتل [هكذا] أعداد واسعة من الأعضاء والقادة الإسلاميين، دون أن تمنح لهم الفرصة لتصوير أنفسهم شهداء أو ضحايا لقمع ظالم. فهذا الخيار، يؤكد هذا المحلل، سيؤدي لا محالة إلى إضعاف هذه المنظمات [الإسلامية].

وأما الخيار الثاني فيتمثل في السماح لهذه المنظمات الإسلامية بالمشاركة في الانتخابات، وإذا فازوا فيها، فإنهم سرعان ما يكتشفون أن الوجود في المعارضة أهون كثيرا من حكم البلد بصورة فعالة؛ وبالتالي قد يجدون أنفسهم مضطرين للقيام بتسويات على حساب مبادئهم لمعالجة بعض القضايا الشائكة. وهذا الخيار في رأي هذا المحلل سيؤدي إلى القضاء المبرم على الإسلاميين).

إذن فالأمر يتوقف على السياسة المرجو اتباعها: إذا كان الهدف هو إضعاف الحركة الإسلامية، فإن الخيار الأول هو الذي ينبغي تطبيقه، أي أن يتم اعتقال أو قتل أعداد كبيرة من الأعضاء والقادة الإسلاميين دون إعطائهم الفرصة [وهذا مهم جدا] ليعرف عنهم الناس أنهم ضحايا أو شهداء لممارسات قمعية ظالمة، حتى لا يتعاطفوا معهم أو يناصروهم؛ وأما إذا كان الهدف هو القضاء عليهم قضاء مبرما، فإن الخيار الثاني هو الأنسب بشرط أن تتخذ كل الإجراءات الممكنة لكيلا تكون الانتخابات التي يفوز فيها الإسلاميون هي الأولى والأخيرة.

لا أكتمكم أني ذهلت عندما قرأت هذا الكلام وقد أعدت القراءة أكثر من مرة لأتأكد من أن صاحبه، فعلا، يعني ما يقول. هكذا وبهذه الصراحة يتحدث صاحب هذا المقال، وهي صراحة على كل حال أفضل من الخطاب الغامض والكلام المنافق الذي يتحدث بالمعسول من القول ويستبطن الأحقاد والضغائن.

رب قائل هذه أقوال شاذة، وأصحابها معزولون لا يمثلون شيئا، وبالتالي ينبغي الإعراض عنها وعدم الاهتمام بها. ليث الأمر كان كذلك، إذن لهان الخطب، إذ التطرف موجود في كل الثقافات والمجتمعات. لكن الحقيقة أنه يمثل تيارا قويا وله تأثير كبير ومنه يمتح رواد الاستئصال في بلداننا. وأمسكوا بهذا الكلام وصعدوا البصر إلى ما يقع في مصر مثلا لتروا هدى هذا التيار الجهنمي الحاقد.

لكن للإنصاف لابد من الإشارة إلى أن هذا الاتجاه رغم قوته لا يحظى بالقبول المطلق في الغرب. فهناك أصوات كثيرة تنازعه وتنتقده انتقادا لاذعا، وتعتبر آراءه صادمة ومتطرفة. ومع ذلك يبقى أن التيار المعادي للإسلام والمسلمين هو الأعلى صوتا والأكثر ضجيجا والمفضل، ولا غرابة، لدى الاستئصاليين في بلادنا العربية والإسلامية.

ليس المقصود هنا أن نهول ما يبينه المتربصون والحاقدون على الإسلام وأهله، ولكن المقصود وكما يقول الأستاذ المرشد رحمه الله، [أن نعرف العالم]، وأحداث التاريخ، وسببية حركته، والقوى المؤثرة فيه، كما هي لا كما يصورها الطموح الجامح أو الأمل المكبوت أو اليأس اليائس.) (344، العدل).

فعلينا إذن أن نعرف أنه إذا كان من يدعو إلى السلم والسلام ويناصر المستضعفين ويناهض الطغاة والمستبدين، فإن هنالك أيضا من ينشر الأحقاد والضغائن، ويتاجر بدماء الأبرياء، ويدعم الفاسدين والمتسلطين. وإذا كان هنالك من يدعو حقا إلى الحوار والتفاهم والاحترام المتبادل ورعاية المصالح المشتركة والتلاقي على ما يفيد الإنسان ويحمي عالمه من الملوثات المادية والمعنوية، فإن هناك أيضا من لا يؤمن إلا بالقوة والإكراه وما يؤمن مصالحه هو وإن كانت على حساب مصالح الآخرين وأيا كانت الأضرار التي قد تلحق بهم من جراء ذلك.

فالمطلوب إذن هو أن نعرف، ونميز، ونتفادى التبسيط المخل، والتعميم المجحف. وينبغي أن لا يفت في عضد المؤمن السائر لموعود الله ورسوله هذا المخاض العسير الذي تجتازه الأمة.

علينا أن نوقن أن إرادة الله فوق الجميع، وأنه منجز وعده لا يخلف الميعاد، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

إخواني الكرام، أخواتي الكريمات:

تعلمون جميعا أن الجماعة ومنذ السنوات الأولى من تأسيسها وهي تدعو إلى ضرورة التعاون والائتلاف للتخلص من الفساد والاستبداد والتأسيس لمرحلة جديدة يعود فيها لهذا الشعب كرامته وحريته وقراره المصادر منه منذ عقود، بل قرون. وهذا مبسوط في مؤلفات الأستاذ المرشد رحمه الله، وتردد على ألسنة المسؤولين في حوارات وندوات وخطابات كثيرة. ومن ذلك ما ذكره السيد الأمين العام الأستاذ محمد العبادي حفظه الله في الذكرى الأولى لوفاة الأستاذ المرشد رحمه الله من أن أيادينا ممدودة للجميع. هذه الدعوة إن بدأ يدرك قيمتها وضرورتها البعض، فإن آخرين لا يزالون يتوجسون ويشترطون شروطا عجيبة. يقول أحدهم ليكون هناك حوار عليكم أن تتركوا مرجعيتكم جانبا لأنه هو وأمثاله لا يجدون أنفسهم فيها. وهذا منطق غاية في الغرابة والاستعلاء، وكأننا نحن نجد أنفسنا في مرجعيتهم اللادينية أو الإلحادية. ولماذا لايتركون هم مرجعيتهم اللادينية قبل الدخول في الحوار. شروط عجيبة والقبول بها يعني أن نصير مثلهم نفكر كما يفكرون ونمجد ما يمجدون. فهل يبقى للحوار من معنى في هذه الحال، وهل المطلوب هو أن ننسلخ عن ديننا وعقيدتنا ومثلنا لكي نكون بعد ذلك أهلا للحوار؟

الحوار في رأينا يقتضي أمورا أهمها:

1. الإيمان بجدواه، ونحن ما فتئنا نؤكد اقتناعنا الراسخ بضرورته. وقد دعونا إلى ذلك عدة مرات، وألحَحْنا عليه أكثر من مناسبة. لكن الاقتناع لا يعني الانسلاخ عن ذاتنا والاستجداء. فهذا مرفوض ولن يكون منا أبدا بإذن الله.

2. والحوار يقتضي الثقة المتبادلة، والكف عن اتهام النيات، فما أكثر ما نسمع أن الإسلاميين يريدون أن يستعملوا الديمقراطية سلما للوصول إلى الحكم وبعدها يكسرون السلم إلى الأبد، ويرددون بغير قليل من الازدراء القولة الشهيرة: لكل راشد صوت واحد ومرة واحدة. One man, one vote, one time فهذا الشك أو التوجس لا يمكن أن يثمر أرضية صلبة يمكن الانطلاق منها والبناء عليها.

3. والحوار يقتضي البحث عن المشترك، وهو في تقديرنا واسع، والتأكيد عليه بدل التنقيب عن المختلف فيه وإثارة المعارك حوله.

4. و يقتضي الحوار حسن الإصغاء لما عند الآخر. فربما نكتشف أن هناك جدرانا سميكة بناها سوء الفهم أو سوء الظن أو هما معا. وربما نضخم أشياء وهي ليست ذات بال، أو نتوهم أشياء وهي غير موجودة أصلا.

5. والحوار يفترض وجود اقتناع بأن لا وصاية على الشعب. فلا ينبغي إبرام شيء في غيابه أو الاتفاق من وراء ظهره. فهو صاحب الشأن، وينبغي أن يقول كلمته ويتحمل مسؤوليته فيما يقرر ويختار.

هذا وإننا مقتنعون، كأكثر الناس، أن أصل البلاء هو الفساد والاستبداد، وأن الخروج الآمن من النفق المظلم هو التطبيق السليم للآليات الديمقراطية. ففيم التنازع إذن أو الاختباء وراء الأوهام أو المصطلحات الفضفاضة؟

وفضلا عن ذلك فقد اقترحنا آلية، وهي المعبر عنها بالميثاق، ولا زلنا متمسكين بهذا الاقتراح لاعتقادنا بأنه:

1. يوفر الضمانات اللازمة لعمل مشترك قوي يستطيع بإذنه تعالى أن ينجز التغيير المرجو.

2. يوفر الشروط اللازمة لانتقال هادئ وبأقل الخسائر الممكنة.

3. يبقي القرار بأيدينا،أعني المغاربة، ويصون استقلال إرادتنا ووطننا. لقد كنا ولا زلنا مقتنعين بأنه كل ما تدخل الخارج وأصبح جزءا من المشهد، وإن من طرف خفي، إلا وتعسر الاتفاق، وتعقدت الأمور، وترتب عن ذلك كوارث نشاهد نماذج منها في العراق وسوريا.

فهذا اقتراحنا ، ولعل أحداث الربيع العربي قد أكدت أهمية هذه المقاربة. نأمل أن يكون لها سامعون في هذا البلد العزيز.

إخواني الأعزاء أخواتي العزيزات:

قبل عام وشهر تقريبا انتقل إلى عفو الله ورحمته مؤسس هذا الكيان المبارك، الأستاذ الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله رحمة واسعة، وبوأه مقعد صدق عند مليك مقتدر. توفاه الله بعد عمر مديد من التقرب إلى الله جل وعلا، كذلك نحسبه ولا نزكيه على الله، والكسب والعمل الجاد والاجتهاد في ترسم خطى الأولين من النبيئين والخلفاء الراشدين والموفقين من صالحي هذه الأمة وعلمائها العاملين، فضلا عن القراءة المفتوحة والبصيرة لكتاب العالم والحكمة البشرية. وقد أنتج كل ذلك تصورا متكاملا، لا نزعم أنه مقدس أو فوق النقد، لكنه اجتهاد بشري موفق قام بتشخيص دقيق للأدواء واقترح مخارج للعلاج، وأثّل لخط سياسي واضح تتأكد بمرور الأيام أهميته، ونفاذ البصيرة التي كانت وراءه.

لقد ترك الرجل ثروة هائلة وكنوزا ثمينة تتقدم زماننا بأشواط كثيرة. فقد نظر بعيدا، وأرسى دعائم لمسار لاحب لكي لا يضطرب، كما يقول، خطو المؤمن، ولا ينقطع حبله، ولا تهزم عزيمته لما يراه في الكون من تناقض ظاهر، ولما يعتري ساكنيه من شدة ورخاء، من حرب أو سلم، من كفر الكافر وإيمان المؤمن، من إفساد المفسد وإصلاح المصلح) (334، العدل).

وخليق بنا أيها الإخوة وأيتها الأخوات أن نعرف قيمة هذه الكنوز التي بين أيدينا وأن نفيد بها الناس. إنها بعد توفيق الله عز وجل حصيلة سنين طويلة من جهد الليل والنهار والدراسة والاطلاع الواسع و التبتل في محراب العبادة آناء الليل وأطراف النهار.

كثير منا يردد اليوم مثلا ما يسمى باللاءات الثلاث. وربما ننسى أيام بروزها الأول. لعل بعضكم يذكر كيف كنا نقضي الليالي ذوات العدد حتى تبح منا لإقناع البعض بضرورة نبذ السرية، حتى قال لي عضو بارز في جمعية إسلامية: إن أمر هذا الرجل غير مفهوم، ويبدو أن وراءه القصر أو الصهيونية.

ولما نشر الأستاذ المرشد رحمه الله التنظيم في العدد الثامن من مجلة الجماعة، قال بعضهم: إن هذا لآكبر دليل على أن الرجل ساذج ولا خبرة له بالعمل الإسلامي المنظم، بينما زعم آخرون أن الرجل مدفوع لكشف الإسلاميين. وتأملوا المكاسب والاحترام والتقدير التي تحظى بها الجماعة جراء إلحاحها ومنذ اليوم الأول على نبذ العنف وذلك قبل أن يصبح العنف قضية ويثار حوله ما ثار من الزوابع.

لا أدري كيف كان سيكون حال بعضنا وربما أكثرنا لولا أن الله بفضله وكرمه قيض لهذا البلد رجلا اسمه عبد السلام ياسين، رحمه الله. ربما كنا سنكون ثائرين، تستهويهم الأساليب العنيفة أو الرغبة في الانتقام، وربما كنا خرافا وديعة في أحضان المتسلطين أو في أحسن الأحوال دعاة اجتهاد نحسب أنه يثمر إصلاحا بينما هو في حقيقة الأمر، والأيام بيننا، يوفر غطاء لتمكين المتسلطين والفاسدين من مواصلة إفسادهم وتسلطهم والاستئثار بخيرات هذا الشعب المقهور. ونحن هنا لا نطعن في نيات أحد، لكننا ككثير غيرنا، نراقب ما نرى، وما نراه لا أثر فيه للإصلاح المزعوم ولا معشار الوعود السخية التي سمعنا بها و قرأنا عنها من قبل. وإلا قل لي بربك أين يتجلى هذا الإصلاح الموعود، بدءا بأكوام القمامة وحوادث السير إلى أحوال الإدارة والإعلام والمستشفيات والمحاكم والمدارس والجامعات وغير ذلك من المجالات؟ هذا مجرد تساءل ساقه القلم عرضا وليس يعنينا الحديث عنه هنا.

فالذي يعنينا هنا هو أن نذكر بهمة عالية، ورجل، لئن كان قد رحل إلى الدار الآخرة، فإنه لا يزال حيا بيننا، كما أشار إلى ذلك أكثر المتكلمين في الذكرى الأولى لوفاته رحمه الله تعالى. فهو حي فينا بعلمه وعمله وجهاده واجتهاده وما خلفه من آثار نافعة نحسبها من العمل الصالح الذي لا ينقطع ثوابه عند الكريم الوهاب، عز وجل.

وإنه لمن الوفاء أن نذكره في دعواتنا ولا ننساه، وأن نتأسى به وبسيرته ولنتطلع إلى ما يتطلع إليه الصالحون من عباد الله. ليس المطلوب هو التعبير عن الإعجاب أو الانبهار والإفراط في المديح، وبمناسبة وبدون مناسبة، وبالتعالي على الناس. فذلك يسيء إليه وإلى دعوته. لكن المطلوب هو أن نسعى كما سعى ونطلب كما طلب، ونبذل كما بذل عسى أن نكون، كما كان يحب لنا رحمه الله، من الأتقياء المحسنين السعداء.

وإنه لمن سعادة العبد أن يدعو الله عز وجل أن تكون له آثار نافعة تستجلب له الرحمات الموصولة إلى يوم لقاء الله، تأسيا بأبي الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، الذي دعا، كما حكى ذلك القرآن عنه قائلا: واجعل لي لسان صدق في الآخرين.

آية في صيغة دعاء جعلنا شعارا لهذه الدورة.

نسأل الله أن نكون من أهل الصدق ظاهرا وباطنا وأن يرزقنا الاستقامة وحسن الخاتمة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

والسلام عليكم ورحمة الله.

الرباط، صبيحة السبت 9 ربيع الأول 1435 هِـ الموافق لِـ11 يناير 2014 والساعة تشير إلى الواحدة و36 دقيقة.