قل آمنت بالله ثم استقم

Cover Image for قل آمنت بالله ثم استقم
نشر بتاريخ

عبارة واحدة تختزن الدين كله، فهي تسعد الإنسان في الدنيا والآخرة، وتخلصه من الهموم والكروب، وترزقه حياة طيبة وميتة هنية. قالها المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم، كما جاء عن أبي عمرو سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال: «قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك، قال: قل آمنت بالله ثم استقم» 1.

إن مما يؤرق الإنسان اليوم ويقض مضجعه الخوف والحزن؛ الخوف من مستقبل مجهول، والحزن على حال غير مرغوب. وهما ينغصان على الإنسان عيشه ويكدران صفو نفسه، بل ويدمران السعادة البشرية. وقد كفى المولى الكريم عباده المستقيمين على أمره  ذلك كله إذ قال عز من قائل: إِنَّ اَ۬لذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اَ۬للَّهُ ثُمَّ اَ۪سْتَقَٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اُ۬لْمَلَٰٓئِكَةُ أَلَّا تَخَافُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ اِ۬لتِے كُنتُمْ تُوعَدُونَۖ (فصلت، 29). بشارة عظيمة تحملها الملائكة الكرام لتطمئن المؤمنين وتهدئ روعهم ساعة الاحتضار، وتقول لهم كما أخبرنا الحق سبحانه وتعالى: نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِے اِ۬لْحَيَوٰةِ اِ۬لدُّنْي۪ا وَفِے اِ۬لَاخِرَةِۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِےٓ أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (فصلت، 30). يقول الإمام السعدي: «يحثونهم في الدنيا على الخير ويزينونه لهم، ويرهبونهم عن الشر ويقبحونه في قلوبهم، ويدعون الله لهم، ويثبتونهم عند المصائب والمخاوف»، وذلك مصداقا لقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَٰلِحاٗ مِّن ذَكَرٍ اَوُ ا۟نث۪يٰ وَهُوَ مُومِنٞ فَلَنُحْيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةٗ طَيِّبَةٗ وَلَنَجْزِيَنَّهُمُۥٓ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَۖ (النحل، 97). ومن كان في عناية الله وكنفه فما الذي يخيفه أو يحزنه. وكما قال الشاعر:

وإذا العناية لاحظتك عيونها ** لا تخش من بأس فأنت تصان

وبكل أرض قد نزلت قفارها ** نم فالمخاوف كلهن أمـــــــان

فكل من أراد أن يحظى بعناية الله وحفظه في الدنيا، وكرمه وجوده في الآخرة؛ ما عليه إلا أن يستقيم على أمر الله ويثبت على الصراط المستقيم. فما هي الاستقامة؟ وما السبيل للثبات عليها؟

وردت معاني عدة للاستقامة، فقد سئل عنها سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: «أن لا تشرك بالله شيئا»، وسئل عنها سيدنا عمر رضي الله عنه فقال: «الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعالب»، وقال سيدنا عثمان رضي الله عنه: «استقاموا: أخلصو العمل لله». وهذه المعاني كاللآلئ تنتظم في عقد لتعطينا معنى متكاملا. فلا استقامة بدون إخلاص النية والوجهة لله عز وجل، ولا استقامة لمن لم يتبع ما أمر الله به، وأتى ما نهى الله عنه، واتبع أهواءه وشهواته وراوغ وتحايل، بل ضل وتاه وسط سبل الغواية والضلال. قال تعالى: وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِے مُسْتَقِيماٗ فَاتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ اُ۬لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِۦۖ ذَٰلِكُمْ وَصّ۪يٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَۖ (الأنعام، 154). وقد علم الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أصحابه رضوان الله عليهم عمليا كيفية اتباع الصراط المستقيم، فعن عبد الله رضي الله عنه قال: «خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطا فقال: هذا سبيل الله. ثم خط عن يمين ذلك الخط  وعن شماله خطوطا فقال: هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها. ثم قرأ الآية» تفسير الطبري.

إلا أن الاستقامة لا تكون بعمل الجوارح وحدها، بل لا بد من استقامة القلب والسر، فالقلب مكمن الإخلاص ومستقره كما جاء في الحديث القدسي: «الإخلاص سر من أسراري استودعته قلب من أحب لا يطلع عليه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده». لذا قسم العلماء الاستقامة إلى أقسام؛ ذهب ابن عجيبة رحمه الله إلى أن “الاستقامة على ثلاثة أقسام: استقامة الجوارح، واستقامة القلوب، واستقامة الأرواح والأسرار”. استقامة السر استفاض فيها سادتنا العارفون بالله الذين أغدق عليهم المولى من كراماته، وهو مقام عال لا حرمنا الله من الوصول إليه. ولكل منزل في الدين استقامته. وإن الثبات على الاستقامة في عصرنا الحالي ليس بالأمر الهين، في ظل طغيان المادة طغيانا منقطع النظير، وانكباب الناس عليها أيما انكباب، والتنافس عليها تنافس الذئبان الجائعان؛ فإنه ثمة أعداء يمكرون بالليل والنهار لصد الناس عن الصراط المستقيم، شياطين الإنس والجن قد توعد كبيرهم إبليس لقول الله عز وجل: قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِے لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَٰطَكَ اَ۬لْمُسْتَقِيمَ (الأعراف، 16). وهذه النفس الأمارة بالسوء لا تحب إلا ما فيه هلاك الإنسان وخسرانه. وفي ذلك يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمة الله عليه: «فلا استقامة إلا غلابا وحربا على الشيطان والنفس والهوى والطبع  والعادة والأنانية والعقلانية الجاحدة والفساد الاجتماعي والاستبداد السياسي والظلم وعدوان المعتدين» 2.

لذا وجب التشمير وأخذ الأمر بقوة، والبحث عن سبيل النجاة، فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال له الصحابة الكرام رضوان الله عليهم: «أسرع إليك الشيب» قال: «شيبتني هود وأخواتها»، مشيرا إلى الآية التي وردت في سورة هود والتي قال فيها الحق سبحانه: فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوِاْۖ اِنَّهُۥ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٞۖ (هود، 112). قال الحسن البصري رضي الله عنه: «لما نزلت هذه الآية شمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رؤي ضاحكا» (الدر المنثور 4/480)، فإنه صلى الله عليه وسلم سيد المستقيمين والأولياء الصالحين، لكن  ما شق عليه إلا استقامة أمته التي أمرت بالاستقامة معه، وهو يعلم صلى الله عليه وسلم العقبات التي يجب اقتحامها للثبات على الاستقامة. قال الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: «الاستقامة اقتحام صاعد لعقبة صاعدة، وبجهد استقامتك وجهادها تتقرب إلى الله عز وجل حتى يحبك ويكون سمعك وبصرك ويدك ورجلك. وقد كتب سبحانه الاستقامة على كثائفك ولطائفك، من جوارح ونفس وقلب وروح وسر» 3.

وإن أهم ما يحقق الاستقامة والثبات عليها؛ صحبة صالحة تشد العضد، وذكر لله كثير يقوي الإرادة، وصدق في طلب وجه الله، مع التضرع والدعاء ليخرجنا المولى الكريم من الظلمات إلى النور. وما تكرار الآية الكريمة اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ سبعة عشر مرة في اليوم إلا لطلب المدد من الله المعين والهادي إلى الصراط المستقيم. قال الإمام المجدد رحمة الله عليه: «فمن استقام على صحبة الكاملين دامت له كرامة التوفيق، ومن انعزل عن جماعة الصالحين ابتلعته الفتنة المحيطة، ومن زهد في حلق الذكر وزاغ عن الأوراد وتهاون في الأوقات قسا قلبه، وكسلت جوارحه، وأظلمت روحانيته. ومن عامل الله عز وجل بإرادة مائلة، وأنانية متطاولة، وجبن في مواطن الثبات، وبخل في حلول الحاجات هوى عن العقبة، وسقط فاندقت منه الرقبة» (الإحسان 2/215). أعاذنا الله من ذلك، وجعلنا من المستقيمين، وأدخلنا برحمته في زمرة عباده الصالحين، ورزقنا قوة نواجه بها النفس والشيطان. آمين آمين، والحمد لله رب العالمين.


[1] صحيح مسلم.
[2] الإحسان 2/215.
[3] الإحسان، 2/246.