قضايا وإشكالات التأطير القانوني لمنظومة التربية والتكوين – هواجس التقنين الملزم وإرادة التحكم الضبطي (3)

Cover Image for قضايا وإشكالات التأطير القانوني لمنظومة التربية والتكوين – هواجس التقنين الملزم وإرادة التحكم الضبطي (3)
نشر بتاريخ

II.      قضية التمويل والمجانية:

لقد خصص مشروع قانون الإطار هذا تمويل التعليم الباب الثامن بمواد تسعة ( من المادة 42 إلى المادة 50)، وقدمها من منطلق كون الاستثمار في مجال التربية والتعليم هو ذو طابع إنتاجي للرأسمال البشري، وذو طابع تنموي مستدام، ويتم الاستناد في ذلك على مبدأ “التضامن الوطني” في تحمل التكاليف العمومية 1.

يعلن المشروع موضوع دراستنا في ما يتعلق بقضية تمويل الدولة القيام باعتماد جملة من القرارات نوردها، ونسجل بصددها جملة من الملاحظات:

1.      يؤكد هذا المشروع على مسؤولية الدولة في مواصلة الجهد في تعبئة الموارد وتوفير الوسائل الضرورية لتمويل التعليم، وهي مسؤولية  ومجهودات لا نرى لها معنى في ظل الإجراءات التنزيلية العامة التي فرضت على القطاع التربوي إلا توجها حثيثا نحو الالتجاء للدول المانحة، و نحو النقص من ميزانية الإنفاق المالي على مجال التعليم، واتجاها نحو التخلص من ما تعتبره الدولة إنفاقا على قطاع غير منتج عبر  الحديث عن تنويع طرق التوظيف والتشغيل لمختلف فئات المهنية وهو الذي لم يكن يعني سوى التخلص من التوظيف وسن التعاقد وضرب صناديق التقاعد، وفتح المجال للقطاع الخاص وهي إجراءات تنذر بخوصصة المجال والتخلص من قطاع اجتماعي كان مصدر إزعاج كبير للحاكمين. 2

2.      تتم الإشارة إلى تنويع مصادر التمويل وهو تعبير ملطف تكنية عن التملص من واجب الدولة في الإنفاق واستهداف لجيوب الآخرين، خاصة لما يتم الاستناد على مفهوم التضامن الوطني التي يتم الالتجاء إليه عادة في حالة الحروب والزلازل والكوارث وعند المصلحة الوطنية العليا.

3.      يورد المشروع القول بإسهام الأسر في تحمل تكاليف هذا التضامن الوطني مع احتراز مربوط بقدرتها واستطاعتها (من سيقدر هذه الاستطاعة وما المعايير المعتمدة في ذلك؟)، ويخص في موضع آخر بالذكر الأسر الميسورة. وهنا إشكال كبير حتى لا نقول وهما كبيرا؛ إذ إن الكل يعلم أن الأسر الميسورة لا تلحق أبناءها بالتعليم العمومي بحيث تمكنها قدراتها المادية وشبكاتها العلائقية من تدريسهم في التعليم الخصوصي الراقي أو خارج المغرب أو في مدارس البعثات الأجنبية. فلا يبقى إذن من مفهوم الأسر إلا الفقيرة المعدمة أصلا أو ذات الدخل المحدود أو ذات الدخل المتوسط من فئة الطبقة المتوسطة (طبعا إن جاز الحديث عن هذا المفهوم في بلد لم تعد فيه سوى طبقات الفقر المقذع وطبقة الغنى الفاحش). وهذه توجه أبناءها إلى التعليم العمومي ويستنزف جيوب بعضها متطلبات التدريس الخصوصي في ظل غياب تام لمعايير المحاسبة والشفافية والمراقبة التربوية. وعليه، يكون المقصود بإسهام الأسر الطبقات المتعسرة بفعل ضغط الظرفية الاقتصادية والاجتماعية، وهو تعسر يعترف به رسميا من طرف المجلس الأعلى هذا المتصدي لفرض هذا المشروع، فلقد أظهرت إحصائياته التي قدمها في تقييمه لمكتسبات تلاميذ الجذع المشترك الصادر في فبراير سنة 2017 أن 98 % من التلاميذ ينحدرون من أسر فقيرة أو من الطبقة المتوسطة، وأن 2% فقط ينحدرون من أسر ميسورة، وأن ربع الذين شملتهم الدراسة يسكنون سكنا غير لائق، وأن 17% منهم فقط لديهم منحة، وأن 36% يؤدون ماديا من أجل الاستفادة من الدروس الخصوصية المؤدى عنها. وهي معطيات تبرز أن هؤلاء لا قدرة لهم على دفع تكاليف جديدة من أجل تعليم أبنائهم إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الأسر المغربية تؤدي نفقات متعددة من أجل تعليم أبنائها تشمل مجالات السكن والكتب والملابس والدروس الخصوصية والمراجع العلمية مما يتعين معه التأكيد أن القول بالمجانية الكاملة للتعليم في المغرب هو قول غير دقيق. 3

4.      يعرض المشروع إسهام الجماعات الترابية أيضا في المجهود التمويلي للتعليم متناسيا أن هذه معظمها يحيى ثق المشاكل المحلية وضعف الميزانية وسيطرة البيروقراطية وغياب الحكامة الجيدة، كما يعرض إسهام القطاع الخاص أيضا في هذا التمويل بل ويدعو هذا القطاع إلى الإسهام في توفير التربية والتعليم لأبناء الأسر المعوزة والأشخاص في وضعية صعبة أو وضعية إعاقة وهذا عندي من قبيل التزيد إذ كيف يمكن إلزام قطاع استثماري بالأساس( في ظل الظرفية التي يوجد فيها الآن تسيبا وانعدام شفافية) بتقديم خدمات مجانية رغم الوعد بامتيازات جبائية تحفيزية. 4

5.      يحترز المشروع، أيضا بعد احترازه بمدى قدرة واستطاعة الأسر، وهو يقرر إلغاء مجانية التعليم بضرورة توسيع شبكة الدعم الاجتماعي إلى نهاية التعليم الإلزامي متحدثا عن تعزيز برامج الدعم المادي والاجتماعي للأسر المعوزة 5. هذا رغم علم الكل بضعف هذه البرامج وهزالة ماليتها ومحدودية أثرها الواقعي الفعلي على استدامة التعلم خاصة في العالم القروي. يكفينا هنا الرجوع إلى ما اعترف به المجلس الأعلى نفسه في تقريره عن تطبيق الميثاق الوطني للتربية والتكوين من كون آليات الدعم الاجتماعي المقررة في الميثاق لم تحقق المرجو منها، مبرزا هزالة الإمكانات المرصودة وتأثيرها على الخدمات المقدمة إطعاما وإيواء وتجهيزا 6، و إذا كان هذا الدعم يقصره المشروع في  خدماته إيواء وتغطية صحية على ذوي الاحتياجات ولذوي الوضعيات الهشة فإن أسئلة كبيرة تثار حول معايير الشفافية في تحديد هذه الفئات أمام تجارب ماثلة في استغلال أنظمة تغطية صحية  واستفادة طبقات غنية وأمام سيطرة البيروقراطية وغياب الحاكمة والشفافية وضعف منظومة التغطية الاجتماعية والتوجه نحو التخلص من عبئ دعم الفئات الفقيرة عبر إلغاء الدعم عن المواد الأساسية والتملص من نفقات صندوق المقاصة 7.

6.      يفتح المشروع بابا آخر للتمويل يتمثل في اعتماد نظام للقروض الدراسية قصد متابعة الدراسة العليا وهو فتح لأبواب الربا المحرمة شرعا، وكأن هؤلاء لم يكتفوا بإفساد دنيا المتعلمين حتى أرادوا إفساد آخرتهم أيضا. ولعلي مجانب للصواب في هذا الرأي لأن منظري المشروع لم يخطر ببالهم إقحام أحكام الدين في الشأن التربوي فهذا شأن وذاك شأن.

7.      تأتي المادة 45 من المشروع لتعلن صراحة، ومن منطلق ما سمته بالإنصاف وتكافؤ الفرص، عن فرض المساهمة في تمويل التعليم العالي ثم في التعليم الثانوي التأهيلي رابطة ذلك بمراعاة اعتبارات تضم التدرج، مستوى الدخل والقدرة على الأداء، الانضباط لشروط ستحدد عبر نص تنظيمي. 8 وحتى لا نكرر ما ألمعنا إليه آنفا من كون المستهدف بهذا القرار هم الذين يقصدون التعليم العمومي بمكوناته وأسلاكه المختلفة وهم من الطبقات الفقيرة أساسا التي تحيا وضعية اجتماعية هشة أو ممن يفترض أنهم من “الطبقة الوسطى” التي تعاني استنزافا كبيرا لماليتها، نتساءل كيف يتحقق الإنصاف وتكافؤ الفرص في إجبار طبقات مجتمعية مسحوقة على تحمل نفقات تعليم غير ذي جدوى ولا جودة بسبب السياسات المتتالية للدولة منذ عهود والتي صرفت الملايير (وما ملايير البرنامج الاستعجالي عنا ببعيد!) على مشاريع وبرامج كانت نتائجها بلقعا في مختلف المستويات التدبيرية والبيداغوجية دون أي محاسبة تذكر.

زد إلى هذا أن التمسح بعبارات لينة كالحديث عن إقرار مبدإ المساهمة، ورسوم التسجيل، ومراعاة مستوى الدخل وإعداد نص تنظيمي إن كان ليس بوسعه إخفاء حقيقة حسم الدولة مع مجانية التعليم فهو يمنح مساحة واسعة للمناورة والإلهاء وسط البطء البيروقراطي السائد في تنزيل القوانين التنظيمية وفهمها وتطبيقها.

8.      سيتم قصر المجانية على التعليم الإلزامي (من سن 4 إلى 15)، وقد وردت عبارة فضفاضة تنص على عدم حرمان أي أحد لأسباب مادية (المادة 43) شريطة استيفاء الكفايات والمكتسبات اللازمة، وهي عبارة تعني حصر المجانية على المتفوقين دون المتوسطين أو الضعفاء وهو حيف يحول دون استدامة التعلم بحسب الطاقة والقدرات، ويقف حجرة عثراء أمام شعارات إعادة التمدرس ومحاربة الهدر المدرسي. ينص المشروع في هذا الصدد على إحداث صندوق خاص لدعم التعليم الإلزامي تعميما وتجويدا يمول من طرف الدولة والشركاء، ولنلحظ أن حتى هذا تريد الدولة أن تتنصل منه بإدخال الشركاء، دون أن ننسى دهاليز مسارات إحداث وصرف الصناديق الخاصة التي لا يعرف أحد عنها إلا الشائعات.

9.      يفتح المشروع من خلال المادة 46 بابا للتمويل الأجنبي تطويرا للتعاون و الشراكة في زعمه (وهو باب لم يكن مقفلا على أي حال) عبر التمويل الدولي، وهو ما يعني استمرار رهن المنظومة لشروط التحكم الدولي للمؤسسات المانحة، ولعل ما توصل به المغرب أخيرا من ملايين الأورو من الوكالة الفرنسية للتنمية يفسر الإقبال الذي لم يكن قد انقطع أصلا على التمكين للفرنسة في مختلف مكونات المنظومة التعليمية المفلسة جملة وتفصيلا.

10.  لا يتحدث المشروع عن زيادة الإنفاق على مجال البحث العلمي، إنما يورد كلاما عن تعزيز الصندوق الوطني لدعم البحث والتنمية التكنولوجية وعن مراعاة شروط الحكامة في إجراءات الإنفاق على هذا المجال (المادة 47 و48).

11.  يدعو المشروع إلى فتح الباب أيضا أمام التعاقد والشراكة مع القطاع الخاص ومؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي، ووضع أنظمة جبائية تحفيزية من أجل ذلك، وهو أمر يفتل في نهج الدولة في تمكين رقبة التعليم العالي والجامعي وحتى البحث العلمي لقبضة لوبيات التعليم الخصوصي يترجم عن ذلك الترخيص ل 8 مؤسسات للتعليم الجامعي الخاص في تخصصات دقيقة تفرض مبالغ ضخمة قصد الولوج إليها.

12. يدعو المشروع إلى إحداث نظام للحسابات الوطنية قصد تقديم كشوفات حسابية دقيقة للإنفاق على المجال، ولو أنا عدنا لتقرير تقييم تطبيق الميثاق الذي أشرنا إليه في بعض الفقرات أعلاه لسجلنا ما وقف عنده المجلس الأعلى من اختلالا متعددة تبرز في: “غياب توفر معطيات شفافة حول صيغ رصد الموارد المالية وحول قواعد التسيير المالي، و غياب جهاز لإعطاء معطيات شفافة حول الموارد والنفقات المالية داخل الأكاديميات، وكذا عدم التوفـر إلا على حساب وطنـي يضم سنة مالية 2003- 2004 لـم يشر إليه إلا في سنة 2006، وكانت الخلاصة المسجلة بصدد تمويل المنظومة خلال فترة التقييم هو وجود فارق هام جدا بين المتوقع والمنجز، أبرز أن الوزارة لم تفلح فـي التأسيس “لحساب التربية” وفي متابعة تجربة 2003- 2004، باعتبارها آلية حسابية ضابطة للتمويل في مجال التربية وهو ما يؤكد وجود هدر مهم يكشف عن الخسائر المالية المسجلة كل سنة”. 9


[1] نفسه ص 8 وما بعدها.
[2] نفسه المادة 35 ص 27 و ص 30.
[3] يراجع هنا وثيقة ” البرنامج الوطني لتقييم مكتسبات تلامذة الجذع المشترك (PNEA) من إعداد الهيئة الوطنية لتقييم المنظومة التابعة للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي،  فبراير 2017 الفقرة المخصصة  لمميزات المحيط الاجتماعي للتلاميذ.
[4] مشروع القانون الإطار ص 12.
[5] نفسه، ص 15 وص 16.
[6] التقرير التحليلي لتطبيق الميثاق الوطني للتربة والتكوين 2000-2013. الصادر عن الهيئة الوطنية لتقييم منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، التابعة للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، دجنبر 2014، ص 39 وما بعدها.
[7] مشروع القانون الإطار، ص 16.
[8] نفسه، ص 31.
[9] الإصلاح الجديد للتعليم بالمغرب: أية رؤية؟ وأية استراتيجية؟  مصطفى شكٌري، مطبعة القلم، الرباط، ط 1، 2016، ص 120 وما بعدها. وكذا التقرير التحليلي لتطبيق الميثاق الوطني للتربة والتكوين 2000-2013. الصادر عن الهيئة الوطنية لتقييم منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، التابعة للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، دجنبر 2014، ص 14 وما بعدها.