قصة موسى عليه السلام: الحضور النسوي المتميز

Cover Image for قصة موسى عليه السلام: الحضور النسوي المتميز
نشر بتاريخ

أكثر ما تحتفظ به الذاكرة العامية عن النساء في القرآن الكريم موضع ورد في سورة يوسف عليه السلام إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ۖ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ، وهو كلام التبس على كثير من القراء ونسبوه إلى الله سبحانه مع العلم أن أمهات كتب التفاسير المعتمدة تُقِرُّ أن هذا الكلام إنما أورده المولى عز وجل على لسان عزيز مصر لما رأى قميص يوسف قد قُدَّ من دُبُر. غير أننا عندما ننفتح على قصة موسى عليه السلام وهي من أحسن القصص التي وردت في القرآن الكريم، سنلمح لا محالة حضورا نسائيا معتبرا قد لا ينتبه إليه العديد من القراء الذين تستحوذ عليهم الذهنية الذكورية. إنه حضور يستمد تَمَيُّزَهُ من خلال الأدوار الإيجابية التي أدتها المرأة أما وأختا وزوجة ومربية في إعداد هذا النموذج الموسوي الخالد من خلال قصة تكررت وملأت مساحات واسعة في آيِ القرآن الكريم. مقابل ذلك، نسجل أدوارا سلبية جمة كان روادها ذكور بدءا من فرعون الطاغية ووزيره هامان ومرورا باقتتال الرجلين وهيمنةِ الرجال على الرِّعَاءِ، واصطفاف السحرة أول الأمر إلى جانب فرعون، وانتهاء بالسامري.

لا جرم أن النساء في حياة موسى عليه السلام أبلين بلاء حسنا لا تخطئه عين يَقِظِ ولا قلب متبصر، بحيث كان وجود المرأة حاسما منذ ولادته حتى لحظة تكليفه بالرسالة وأمره بالذهاب إلى فرعون. لقد تحملت أم موسى معاناة مادية ومعنوية، تشفق من حملها الجبال، حتى أصبح فؤادها فارغا، إذ كيف تصبر أم يهددها طاغية في رضيعها بالذبح؟ وكيف يتقبل عقلها أمر ربها بإلقاء رضيعها في يمٍّ من حجم نهر النيل ودعوتها إلى عدم الخوف والحزن ثم وعدِها بردِّه إليها وتبشيرها برسالته؟ ثم كيف يُطلَب من أخت موسى أن تترقب أخباره من داخل سرايا قصر فرعون وما يحيط هذه المهمة من مخاطر ومكاره؟ وكيف تمكنت آسية بنت مزاحم من إقناع زوجها الطاغية الجبار باتخاذ طفل غريب ولدا لهما وهو الذي حملته رؤياه على تَعَقُّبِ كل المواليد الذكور والأمر بذبحهم؟ فها هو ذَكَرٌ يَمْثُل بين يديه وداخل قصره لولا مبادرتها وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ ۖ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا. ثم كيف أقنعت بِنْتَيْ شعيب عليه السلام والدَهما باستئجار موسى عليه السلام الغريب عن مدين واتخاذه صهرا؟ علاوة على ذلك، كيف آمنت امرأة فرعون بدين موسى وهي تحت عصمة رجل جبار متكبر وكانت حريصة على أمنه وسلامته، وتحملت من زوجها كل ألوان العذاب في سبيل الثبات على دين الإسلام حتى ماتت شهيدة تحت التعذيب؟ ليبقى المشهد الأكثر درامية في قصة موسى ما حلَّ بماشطة بنت فرعون لما باحت أمامها بإسلامها وبلغ الخبر فرعون فراجعها في الأمر، إلا أنها أصرت على إسلامها فأحضر قدرا من الزيت حتى بلغ درجة الغليان وأخذ يلقي أبناءها تلو الآخر وهو يساومها على إيمانها فكان منها ذلك الثبات الأسطوري فلحقت بأبنائها ولم تتراجع وقتئذ قيد أنملة عن عقيدتها، فمن أي طينة يا ترى هذه المرأة، إنها لو وضعت في كفة وملايين الذكور في كفة أخرى لتطايرت كفة الذكور كالهباء المنثور.

 إنها مواقف ولحظات كانت حاسمة في حياة موسى عليه السلام، أجرى الله سبحانه أقدارها على يد نساء في مجتمع لم تكن فيه المرأة ذات شأن كبير، ومع ذلك فإن أثر تربيتهن في إعداد نبي من أولي العزم يجعلنا نعيد النظر آلاف المرات في المنزلة التي يتوجب على المرأة أن تحظى بها في أي مشروع مجتمعي، إذ ليس من العبث أن يودع الله سبحانه رجلا ويُعِدّه لمواجهة طاغية من حجم فرعون على أيدي نساء، حتما ثمة قوة ناعمة يفتقر إليها كل مشروع تغييري لا تمتلكها ولا تجود بها إلا نفوس النساء شئنا أم أبينا!

طبيعي أن تنسينا النهايات السعيدة البدايات الحزينة، ذلك أن معظمَنا لا يحتفظ من قصة موسى سوى الرجل الذي أخبره بمؤامرة القوم عليه، وبأخيه الذي شَدَّ به الله عَضُدَهُ، ثم ننسى ما قدمته الأم والأخت والمربية والزوجة من تضحيات جسام ساهمت كل منها في إعداد رجل أسقط من جهة الفرعونية والهامانية اللتان ترمزان إلى الاستكبار، وبث من جهة أخرى في كل مستضعفي الأرض حيثما وجدوا روح التحدي والقوة مهما كانت الظروف صعبةً ومهما كانت العقبات كؤودةً.

وفي ختام هذه المقالة المقتضبة، لا يسعني إلا أن أُذَكّرَ النساء اللواتي أُعجِبنَ بهذا التحليل، ألا ينسيهم  هذا العرض أن شخصية القصة كان رجلا، ما يستدعي ربط النهايات بالبدايات والنتائج بالأسباب، عَلَّنا نستوعب أهمية توزيع الأدوار وتخصيص الدور المناسب للجنس المناسب وفي الوقت المناسب، عملا بقوله تعالى وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وتدبرا لقوله سبحانه إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى؛ فشتان بين متطلبات الإعداد والتحضير ومقتضيات الإنجاز والتنفيذ، فلكل من المرأة والرجل باعٌ ومجال يكون فيه كل واحد أتقن وأفضل من الآخر، ما يستوجب ضرورة غرس مقاربة التكامل في كل القلوب والأذهان في أفق القطع مع ذهنيات ومقاربات التفاضل والتصادم والتمييز بين الجنسين، مع العلم والتنبيه أن النساء وإن كُنَّ يستفردن ويتفوقن بامتياز في مجال إعداد وتحضير الأجيال فإنهن يزاحمن ويشاركن الرجال بامتياز في الإنجاز والتنفيذ، ما يجعل حظهن في خراج البشرية وما تنتجه مضاعفا سواء قسناه بالكم أو النوع، وهذا فضل الله يوتيه من يشاء.