قصة من رحم المعاناة

Cover Image for قصة من رحم المعاناة
نشر بتاريخ

كانت وديعة طفلة في السادسة من عمرها حين التقيتها في قرية من قرى الشاوية إثر زيارة عائلية. طفلة كان لها من اسمها حظ ونصيب، بملامح وجهها الرقيقة وعينيها الواسعتين المشعتين ذكاء وطموحا…

حديث دقائق معدودة معها، كان كافيا ليصور لي مدى شغفها بالدراسة والتعلم، وحلمها الكبير بأن تصبح معلمة مثل معلمتها التي كانت، حسب تشخيصها الطفولي البريء، “جميلة الوجه، أنيقة الثياب، وتعرف كل شيء ! “.

كانت مدة إقامتي القصيرة بالمنطقة كافية لأتعرف على معاناة أسر وأبناء “المغرب العميق” في العيش والاستفادة من أبسط الحقوق، في مقدمتها الحق في التعليم، مع غض الطرف عن كلمة “الجيد” كما تسوق له الشعارات الرسمية!

كانت تحديات التمدرس كبيرة للذكور والإناث؛ عوز الأسر وعجزها عن توفير مصاريف الكتب والأدوات الدراسية، وعورة الطرق والمسالك المؤدية إلى المدرسة وصعوبة عبورها في مواسم الأمطار والأوحال، افتقار أغلب المدارس إلى المرافق الضرورية التي تلبي حاجيات التلاميذ طيلة يوم طويل وقاس خارج البيت، أخطار الطريق المحدقة بالأطفال من كلاب شاردة وأفاعي وعقارب…

 كانت لكل مرحلة دراسية تحدياتها التي تكبر وتزداد مع المرحلة التي تليها، وفي كل مرحلة يكون للفتيات من مثبطات التمدرس النصيب الأوفر؛ ضرورة الانتقال إلى أقرب مدينة لمتابعة الدراسة بعد المرحلة الابتدائية، بما يتطلبه هذا الإجراء من إمكانات لتغطية مصاريف الدراسة والسكن والمعيشة وغيرها، وما يسبق ذلك من انتزاعٍ من أحضان الأسرة والارتماء في عالم مجهول، تكون فيه الفتاة عرضة لمختلف الأخطار والأطماع…     

 وفي هذا المرفأ رست أحلام وديعة، وتبخر طموحها في أن تصبح معلمة “أنيقة الثياب، وتعرف كل شيء”، فلزمت بيت أسرتها تساعد أمها في أشغال البيت وأباها في عمل الحقول وترعى إخوتها الصغار. ولم تمض على هذه الحال سنوات كثيرة حتى تزوجت شابا يعمل ويسكن في المدينة المجاورة، حتمت عليه الظروف المادية القاهرة أن يكتفي بزيارتها في بيت أسرته زيارة خاطفة كلما سمحت ظروف عمله بذلك..

وكأن القدر أبى إلا أن يجمعني ببداية أحلام وديعة ونهايتها، فالتقيتها قبل سنتين في قريتها، ولكن هذه المرة بعينين مغمضتين، لم أستطع أن أرى فيهما بريق طموح الطفلة الصغيرة التي تأمل في الغد الواعد. ماتت وديعة بعد إصابتها بسرطان في الرحم، وتركت وراءها طفلين يتيمين وزوجا مكلوما وأما ثكلى، وسراب أحلام…

شُيعت جنازتها بُعيد صلاة العصر من يوم ممطر من شهر يناير، وتزامن ذلك مع خروج التلاميذ من مدرسة القرية، فكان من بين مُشيعيها فتيان وفتيات صغار يرتدون ثيابا رثة بالكاد تدفئ أجسادهم، وينتعلون أحذية بلاستيكية طويلة موغلة في الأوحال تثقل خطواتهم. كانوا يرمقون جنازتها بأعين دامعة، ولسان حالهم يقول: وداعا وديعة! ولكن بعدك لا نقبل أن تستمر المعاناة!

#_التعليم_حق_للفتاة_القروية