قراءة في “نداء” الهيئة العلمية لجماعة العدل والإحسان إلى “علماء المغرب”

Cover Image for قراءة في “نداء” الهيئة العلمية لجماعة العدل والإحسان إلى “علماء المغرب”
نشر بتاريخ

نشرت بوابة العدل والإحسان الرسمية “نداء” حديثا للهيئة العلمية للجماعة بتاريخ 2 غشت 2025، تحت عنوان “نداء لعلماء المغرب”، ويدخل هذا النداء في إطار ما ورد في الحديث النبوي الشريف: “الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قُلْنا: لِمَنْ؟ قالَ: لِلَّهِ ولِكِتابِهِ ولِرَسولِهِ ولأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وعامَّتِهِم.” 1 

وليست المرة الأولى التي توجه فيها الجماعة مثل هذا النصح تبرئة للذمة؛ عبر مرشدها 2 أو مجلس إرشادها، أو الدائرة السياسية، أو باقي مؤسساتها، بل سُبق هذا البيان برسالة الطوفان ورسالة القرن، ورسالة إلى من يهمه الأمر، ورسالة النصح إلى العدالة والتنمية، وعدة رسائل مفتوحة إلى الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، بالإضافة إلى ما ترسله الجماعة من رسائل عبر تنظيمها الوقفات والمسيرات والحوارات حول قضايا المرأة والغلاء والتضييق على الحريات وقضايا الأمة وعلى رأسها قضية فلسطين، وسكوت العلماء عن ارتماء المغرب الرسمي في أحضان التطبيع…

ما يميز هذه البيانات والنداءات والرسائل؛ عموما؛ خطابها القوي والموجه، أو القاصد، والإجرائية؛ وتجنب الترف اللغوي والفكري، وتركيزه على الفعل والتحرك العاجل، ولعل هذا ما يتسم به بيان الهيئة العلمية الداعي علماء المغرب إلى اتخاذ إجراءات عملية تجاه ما يقع في غزة، وما يحمله في طياته من أبعاد؛ بلاغية قوية، ودلالات شرعية، ورسائل سياسية واجتماعية، حاول النداء استثمارها للتأثير على المخاطبين.

من حيث لغة النداء وبيانه وبلاغته؛ ظهرت قوة اللغة منذ كلمات العنوان الثلاث: “نداء لعلماء المغرب”، فالفعل “نادى” في اللغة العربية يدل غالبا على الدعوة بصوت عال أو مرتفع، كقوله تعالى: “ونادى نوح ابنه وكان في معزل…”؛ فالنداء في هذا البيان قد يدل على أن هناك بعدا ما بين المنادي والمنادى عليه، يقصد المنادي إزالة أسباب البعد.

أما البسملة فشفعت بكلمات ذات جرس قوي؛ مثل: “الحق المبين” “ناصر المستضعفين” “قاهر الجبارين” ..”قدوة العلماء العاملين” “سيد المجاهدين” …مركبات إضافية لا تُستعمل اعتباطا في مثل هذه البيانات؛ بل تعزيزا لشرعية النداء ورمزيته، فـ “الحق المبين” هو اسم من أسماء الله الحسنى، من بين معانيه: المُظهر للحق؛ المبين لعباده طريق الهدى؛ الظاهر الذي لا يخفى… والعلماء الذين وُجه إليهم الخطاب يعرفون ويعلمون هذه المعاني؛ لذلك كانت الإشادة بهم وبدورهم باعتبارهم ورثة الأنبياء، وليس هذا جديدا في أدبيات الجماعة؛ إذ كان ذلك ديدن الإمام في خطابه للعلماء حيث قال: “إنكم سادتي العلماء ملح هذه الأمة وذخرها..” 3 وبذلك يكون هذا الخطاب مناسبا للسياق والمناسبة شرط؛ فـ “ناصر المستضعفين” و”قاهر الجبارين” استعمال بلاغي يدل على التوكل على الله في طلب النصرة وقهر الجبارين، وهو ما يضع العلماء بين اختيارين: إما الانحياز إلى المستضعفين الذين سينصرهم الله لا محالة، أو الانبطاح بين أيدي الجبارين الذين سيقهرهم الله ويحل بهم غضبه.

وفي نفس سياق الاستعمال اللغوي ودلالاته، وظف النداء لغة وجدانية ذات تأثير عال لتنبيه المنادى عليه وإثارة ضميره، وتحفيز حسه الأخلاقي والإيماني والإنساني، ووضعه في صورة الوضع الكارثي للقضية الموضوع: “فلقد حل بالأمة الآن من الخطر ما تعلمون، إذ إخوتنا في غزة يقتلون جماعيا بأبشع وأقذر صنوف التقتيل تدميرا وتفجيرا وتجويعا وتعطيشا وحصارا، على مرأى ومسمع من المسلمين والعالمين”، ولقد كان التكرار والاستفهام الإنكاري (يا علماءنا، هل ما زال الضمير…) بمثابة إثارة التأنيب الداخلي والتحسيس بالمسؤولية الإجرائية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

ومن جهة أخرى فقد استند النداء إلى المرجعية القرآنية، فاستشهد بآيات في الموضوع؛ مثل قوله تعالى: “وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر” (الأنفال: 73)؛ وهو تأكيد على وجوب النصرة العاجلة، وأظن أن هذا النداء يصحح دور العلماء الذي أهمل في خضم الأزمات التي تمر منها الأمة، باعتبارهم مبصِّرين ومرشدين ومنبهين لا متفرجين ومصفقين للسلاطين؛ إذ جاء في النداء: “يلزمكم ما لا يلزم عامة الناس”.

واستشهد كذلك بقوله تعالى: “إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم” (البقرة: 158-159) والقصد من ذلك هو تجريم الصمت وذمه؛ بل توصيفه بـ “الخيانة” و”كتمان الحق”.

وكما هو الشأن في كل رسائل وبيانات ونداءات العدل والإحسان فإن الخطاب لا يقتصر على العلماء، وتحميلهم مسؤولية النصرة دون غيرهم؛ بل حمل النداء المسؤولية للحكام وألقى باللائمة عليهم، ووجه نقدًا ضمنيًا إليهم، وذلك بدعوة العلماء إلى “النصح للحاكمين” و”تحريضهم على التوقف عن دعم العدو الصهيوني”، بالإضافة إلى انتقاد سياساتهم التطبيعية والتي توحي؛ حسب لغة البيان؛ بوجود تواطؤ رسمي مع الاحتلال الصهيوني، وكذلك بوجود تواطؤ علمائي والسلطان بالسكوت عن السياسة الرسمية التطبيعية المكشوفة، وهذا ما لا ينبغي للعلماء فعله بحسب وظيفتهم؛ حيث “ينتظر المغاربة من علمائهم أن يغادروا مقاعد الصمت”، وقيادة الرأي العام في الساحات والمنتديات والميادين، وفي ذلك دلالات رمزية طلائعية آنية وتاريخية في وجدان الشعب المغربي.

وخلاصة القول يحفز النداء علماء المغرب على القيام بالدور الشرعي والتاريخي والسياسي المنوط بهم تجاه كل القضايا وعلى رأسها ما يجري من مأساة التجويع والتقتيل في غزة، ويدعوهم إلى مواجهة التطبيع، وهو بذلك يهدف إلى إعادة ترميزهم وتبويئهم المكانة التي تليق بهم. في خضم التدافع القائم.

وختاما أرى أن النداء رغم قوة خطابه لا يضع العلماء في وضع اتهامي، وإن كان احتجاجيا، خاصة فيما يتعلق بالتطبيع، فإنه تكملة لبناء جسور التواصل التي بدأتها الجماعة مع علماء المغرب (رسميون، مستقلون، أكاديميون…) منذ رسالة الطوفان، وهو ما يضع الجميع أمام مسؤولياتهم الأخلاقية والإنسانية.


[1] مسلم،  صحيح مسلم، رقم: 55، أخرجه أبو داود (4944)، والنسائي (4197) واللفظ لهما.
[2] ياسين عبد السلام، الإسلام أو الطوفان، الجزء الموجه إلى السادة العلماء؛ ملح الأمة؛  ص: 108-111. ومما جاء فيها: “إنكم سادتي العلماء ملح هذه الأمة وذخرها…” “وإنكم إن قرأتم اليوم عصارة قلب يتلهف على الإسلام والمسلمين، قلب طويلب علم جلس أمامكم على حصير المعهد الديني ثم ترونه يتقدم إليكم اليوم، فلسكوتكم عن الحق وغفلتكم وقلة جدواكم وأنتم كثر. وإيمانكم لا أشك فيه ولا في قدرتكم على تغيير وجه المغرب لو أخلصتم لله ووجهتم إليه وجوهكم.”
[3] رسالة الطوفان