الجزء الثالث
المحور الثاني: العوامل المفسرة لنجاح العدل والإحسان
في المحور الثاني من الرسالة تحدث الدكتور عبد الواحد المتوكل عن من العوامل المفسرة لنجاح العدل والإحسان، فركز على توضيح العوامل التالية
أولا: اعتبارها جزءا من مرحلة التجديد الإسلامي الذي تعيشه الأمة
فالأمة تنبعث لأسباب لا يدركها العلماني العقلاني الذي لا يستحضر البعد الإيماني في حركة المؤمنين ولا يساوي قدر الله شيئا في اعتباره. فالعدل والإحسان جزء من الدوحة النبوية الشريفة التي تتجدد على رأس كل مائة سنة.
ثانيا: شخصية الإمام رحمه الله وكاريزميته
في اثناء عرضه لحياة الامام، تجاوز الكاتب المنهج الكرونولوجي التقليدي المتبع في سرد حياة الرجال، فقد عرض الكاتب مختلف مراحل حياة الرجل مركزا على جوانب التطور ومواطن التحول في شخصيته وعقليته ونظرته للعالم من حوله. هذه التحولات التي انعكست على سير الجماعة منذ نشأتها إلى مختلف مراحل تطورها.
ولا يسع المتتبع إلا أن يقر بأهمية شخصية الإمام رحمه الله بالنسبة للجماعة. غير أن هذا، يوضح الدكتور المتوكل، لا يعني أن الإمام كان يتدخل في كل صغيرة وكبيرة في الجماعة. فوفقا لمصادر مطلعة، يقول الدكتور المتوكل، بدأ الإمام ينأى بنفسه تدريجيا عن متابعة تفاصيل سير الجماعة مباشرة بعد التأسيس بثلاث سنوات، إلى أن توقف عن حضور لقاءات مجلس الإرشاد نهائيا في السنوات الآخيرة من حياته.
كانت شخصية الإمام، كما أوضح الباحث، تلهم الأعضاء، وتذكي روح العمل الدعوي فيهم، وكان كثير من الناس يلتحقون بالجماعة تقديرا للمواقف السياسية للإمام رحمه الله أو إعجابا بكتبه وسعة اطلاعه أو حبا ورغبة في عمقه التربوي.
ثالثا: وجود مرجعية فكرية متكاملة قوامها الاجتهاد
تتمثل في المنهاج النبوي، وتتميز بفهم شمولي للإسلام، وقابلة للتطبيق العملي، وللتطوير الفكري. هذه المرجعية وجدت قبل بداية العمل إيمانا من الإمام رحمه لله بأن العلم يسبق العمل وقد ساهم المنهاج النبوي في الإجابة عن مجموعة من الأسئلة التي كانت مطروحة على العمل الإسلامي آنذاك.
رابعا: وجود بنية تنظيمية متحركة ومرنة ومتطورة مع الزمان
مستجيبة للحاجيات التنظيمية والهيكلية التي يفرضها توسع الجماعة واختلاف مشارب وحيثيات الملتحقين بها، وكذا تعدد أنشطتها وتنوعها.
اختيارها منهج الوسطية في فهم الإسلام، ومراعاة المصلحة المعتبرة في اتخاذ المواقف، وابتعادها عن منهج الرفض المطلق أو القبول المسبق للأفكار والاجتهادات والفتاوى وكل الحكم والفوائد صدرت عن عقل مسلم أو عن عقل كافر، ومن ذلك اعتبارها المجتمع مفتونا اختلط لديه الحق بالباطل وليس جاهليا خارج عن الملة، وتثمينها للاجتهاد كعملية فكرية تصدر عن قلب مرحوم منور بذكر الله وعن عقل مسدد ومؤيد بوحي وشرع إلهي معتبرين.
خامسا: تبنيها للخيار الثالث كمنهج للتغيير
هذا المنهج يرفض المسلك الثوري لأنه يتوسل بالعنف ويتلبس بإراقة الدماء، كما يستبعد التغيير الإصلاحي من داخل مؤسسات النظام لأنه يستحيل عملا سياسويا عقيما عديم الجدوى ويؤخر التغيير إلى أجل غير مسمى.
ينبني الخيار الثالث على تشخيص أصيل للوضع الراهن مبني على الإخبارات النبوية عن التحقيب التاريخي للمراحل التي ستعيشها الأمة بدءا بمرحلة الانكسار التاريخي وذهاب الشورى وغياب العدل وانزواء الإحسان إلى مرحلة العض والجبر ودخول الاستعمار الإمبريالي الذي أحدث صدمة نفسية قاسية لدى أبناء الأمة وكرس تقسيمها إلى دويلات ومكن لهيمنته الثقافية ولنموذجه القيمي. تقترح العدل والإحسان خمسة إجراءات عملية:
1. ضرورة إيجاد ميثاق وطني يؤمن استقرارية القرار السياسي الوطني ويخفف من تأثير التجاذبات الأجنبية. وفي مرحلة وضعه لا بد من أجواء تسودها الثقة والمصالحة الوطنية والتشاركية بين جميع القوى بغض النظر عن حجمها في المشهد السياسي.
2. ضرورة وضع دستور جديد من قبل جمعية تأسيسية مشكلة من القوى بعد مفاوضات وتوافقات بينها
3. ضمان انتخابات حرة ونزيهة.
4. لا بد من مرحلة انتقالية بحكومة وحدة وطنية وببرنامج مشترك.
سادسا: تركيزها على التربية الروحية
باعتبارها مطلبا إلهيا وحاجة إنسانية وضرورة اجتماعية، ومحفزا على العمل وصمام أمان في وجه التحديات الواقعية والصراعات الحزبية… إلخ. وقد أولت العدل والإحسان حيزا كبيرا من تنظيراتها وبرامجها وعملها في الميدان للمسألة التربوية واوجدت لها محاضن للتلقي التربوي متعددة ومتنوعة.
ملاحظات أخيرة
وأخيرا، إن كان لا بد لي ككل قارئ أن أتحدث عما لاحظته في الأطروحة، فإنني أقول إن جملة ما وجدته إنما تَبَدى لي في موطنين اثنين: الموطن الأول يفيض بالحب، الموطن الثاني ينبئ عن البغض.
فأما الذي هو في موطن الحب فيبرز عند حديث الباحث عن الإمام رحمه الله. وأما الذي في موطن البغض فيظهر عند إبراز شمولية النظام الحاكم وظلمه واستخفافه بالناس وسخريته من عقولهم. ههنا وفي هذين الموطنين بالذات تتصرم من بين يدي الباحث منهجيته الأكاديمية، وتتلاشى الموضوعية العلمية، وتتقلص المسافة النقدية في موطن الحب إلى حد الاختفاء، وتبرز في موطن البغض إلى حد الانتشاء، ولا يسعف الباحث إلا احترازه بما أقر به في مطلع بحثه عند تحديده لإطاره النظري. ذلك أنه إنما يشهد على صحة مقولة الهرمينوطيقيين الأصلاء، هايدكر وكادامير، عندما أكدا على التداخل بين الموضوعيّة والذاتيّة في المنهج التأويلي الحواري وعندما حذرا من أن المنهج لا ينبغي أن يتحول إلى غاية معرفية في حد ذاته، لأن هذا يكثف العماء الذي بين الذات وموضوعها. فالموضوعية في نهاية المطاف حسب كادامير إنما هي فهم ذاتي للمعرفة الإنسانية. فالكاتب إذن لم يخرج عن المنهج الذي ارتضاه لنفسه. ويشفع له في الموطن الأول ما نعلمه عنه من صحبته وقربه من الإمام القدوة رحمه الله، ويفسر سلوكه في الموطن الثاني ما خَبَره عن النظام الحاكم عن كثب. وكيف لا وقد ناله وما يزال من ظلم النظام هو وإخوانه في العدل والإحسان ما هو معلوم.
إن البحث الذي تقدم به الدكتور عبد الواحد المتوكل بحث محكم في شكله ومبناه، وعميق في مضمونه ومعناه. ومتميز عن الأبحاث السابقة بإضافة نوعية بينة. فالعديد من الأبحاث السابقة تقف عند حد الوصف الستاتيكي للعدل والإحسان، تدرسها من خلال كتب الإمام وأدبيات الجماعة. لكنها لا تربطها بالواقع المتحرك من حولها. أما هذه الدراسة فقد أظهرت أن العدل والإحسان حركة متجذرة في تاريخ الأمة، نابعة من عمق التراث التربوي لهذا البلد، متفاعلة مع الأحداث والتطورات من حولها محليا وإقليميا ودوليا. حركة تستجيب لمتطلبات العصر التنظيمية والتنظيرية، دائمة التجدد، مستمرة التطور، وتحتاج إلى مزيد من البحث والدراسة. هذه الأطروحة أعطت الانطلاقة لمشاريع بحثية مستقبلية، ورفعت السقف الأكاديمي لمن يروم الكتابة عن العدل والإحسان، وجعلت صاحبها يستحق لقبه الجديد: دكتور في العلوم السياسية بميزة مشرف جدا.
والحمد لله رب العالمين.