من كتاب “تنوير المؤمنات” | قانون الغاب

Cover Image for من كتاب “تنوير المؤمنات” | قانون الغاب
نشر بتاريخ

اقترن سقوط غرناطة آخر معقل من معاقل المسلمين في الأندلس باكتشاف الأوربيين للقارة الجديدة التي سموها فيما بعد أمريكا. كان المغامر القوي كرسطوف كولمب يفتتح سنة 1492 بتاريخ النصارى عهدا جديدا، عهدا دام منذئذ خمسة قرون ولا يزال مستمرا. هو عهد الاستعمار ونهب الشعوب وتمَوُّلُ الغرب واستقواؤه على حساب أهل الأرض جميعا.

(..)

ما كادت تسلم بقعة في الأرض فيها ثروة معدنية أو غابوية أو بشرية من المد الاستعماري والاحتلال والاستغلال بشتى أشكاله ودرجاته: مستعمرات احتلال، ومحميات، وانتدابات، وما إلى ذلك مما سماه القانون الدولي الذي نشر «الحضارة» في المعمور.

جلس الأوربيون على مائدة المفاوضات في مؤتمرات توزيع الأمم الغنائم فوضعوا بالمسطرة والبِرْكار خريطة للعالم ملونة كأنها على الورق مساحات تلعب فيها يد طفل شغوف بتعريج الخطوط وتلطيخ الأحمر والأخضر والبنفسجي. وفي واقع الجغرافيا وحياة الأمم كانت ولا تزال كما أرادوها أقفاصا تحوز البشر في حيز يسمونه وطنا قوميا يفصل بين الناس وتاريخهم، ويمسخ هويتهم. هكذا مزقت وحدة المسلمين، بل أعطت الخريطة الاستعمارية للتمزق التقليدي صبغة الخلود.

ولعب الاستعمار الماكر بالولاءات القبلية القومية ليضرب الشعوب المستعمرة بعضها ببعض. وهكذا أنهض العرب أثناء الحرب العالمية الأولى واتخذ منهم حلفاء لتمزيق الدولة العثمانية التي كانت قرونا شجىً في حلق أوربا وشوكة للإسلام.

تقدم الأوربي النشط المغامر الشجاع الشرس المغرور يغزو أنحاء العالم، ويضم إلى حصيلة عمله ونتيجة اقتصاده الذي كان متواضعا إذ ذاك كنوزا من خيرات الأرض وفائض إنتاج أهل الأرض.

(..)

وتسابقت الدول الأوربية خلف الطرائد يتقاسمون الأرض. انتَضَوْا لتخريب الاقتصادات التقليدية، ولخنق الصناعات المحلية، ولقتل حضارات الشعوب سلاحين تطورا فيما بعد واتخذا أشكالا، ولا يزالان يتطوران وتطلق عليهما الأسماء المناسبة لتطور الزمان والمكان واللغة السياسية والتكنولوجية. السلاح الأول هو الآلة، والسلاح الثاني الحرية.

كلا الآلتين لا تعملان إلا في صالح المستعمِر وتدمير المستعمَر. مصالح القَوِيِّ في الغاب هي المعتبرة في جميع مراحل الإنتاج والتوزيع. هناك في المركز تخطط الاستراتيجيات وهناك يتخذ القرار، ومن هناك تصدر الأوامر. والعملاء المساعدون المحليون عبيد التنفيذ وسدنة الآلة ومديرو اليد العاملة الرخيصة على مستوى الوكيل المباشر للأشغال الملوِّثة.

(..)

وهكذا بمساعدة الثروات المنهوبة وبالنزاع عليها ارتفعت الصراعات بين الأوربيين إلى حكمة سياسية تسمى الديمقراطية وإلى حكمة تساكنية تسمى ميثاق الأمم المتحدة. ارتفعت الصراعات إلى الحكمة المستفادة من حربين عالميتين كان من وَقُودِهما المهم حشود العساكر من البلاد المستعمرة وكنوز الأرزاق والأقوات والموارد المعدنية من البلاد المستعمرة.

الديمقراطية المستفادة من دروس الحربين نظام حكم وسيادة وإنسانية وسلم اجتماعية وأمن واستقرار سياسي وازدهار اقتصادي في حقهم. وهي حين تُقذف إلينا لعبة ممتعة، وأكذوبة، ومضغُ كلام.

أكذوبة حين يوحون إلينا بأن الانسلاخ عن ديننا وشرعنا لننخرط في دين الديمقراطية اللاييكية شرط في انتشال أنفسنا من وهْدة التخلف والجهل والفقر والاضطراب والاستبداد. حيلة أخرى لنبقى أبناء مستهلكين للإديولوجيا الاستعمارية كما نحن مستهلكون للبضائع الاستعمارية.

تلاحظ أخت الإيمان أني تورَّكْتُ في هذا الفصل وسوَّدت حِبر الكتابة لإبراز خصائص الاستعمار. وكنت فعلت مثل ذلك في الفصل السابق لأبرز الفراغ الذاتي والمرض التقليدي الموروث عندنا. ذلك لكي تتجلى الصورة بمتناقضاتها وتقاطعاتها وخلافاتها وائتلافاتها.

وبسطت من خبر هذا وذاك للمؤمنات لأن دخولهن الضروري إلى ميدان المسؤولية عن مصير أمتهن لا طريق إليه إلا بعلم ما هي الأمور عليه.

عبد السلام ياسين، كتاب “تنوير المومنات”، ج 1، ص 90 – 96 على موسوعة سراج.