اعتبر المهندس لطفي حساني، القيادي في جماعة العدل والإحسان، أن أسطول الحرية الذي نظم بغية كسر الحصار الصهيوني على غزة عام 2010، هو من المبادرات المدنية الأكثر تأثيرا في الحياة الإنسانية، وقد شاركت فيه عشرات المنظمات المدنية من كل أنحاء العالم، وأخذ التحضير له أكثر من سنة لاقتناء السفن واللوجستيك الخاص به، وكذا جمع المساعدات الإغاثية، والتنسيق بين الهيئات المشاركة، وحشد التأييد الشعبي الدولي لهذا الأسطول.
الأستاذ حساني، الذي قدم نوستالجيا بعد قرابة العقد والنصف من مشاركته في هذه الملحمة، أشار في لقاء له مع قناة الشاهد بثته يوم الإثنين 19 غشت 2024، إلى أن الأسطول قد تكون من ثمان سفن على رأسها سفينة “مرمرة الزرقاء” التي كان على متنها 590 راكبا. وتكونت المساعدات التي حملها أسطول الحرية، من احتياجات أساسية مثل الأغذية الجافة، منتجات النسيج، ملابس، أحذية. إضافة إلى مستلزمات طبية وأدوية وحليب أطفال. كما حمل الأسطول إلى أهل غزة معدات بناء البيوت وحديد، ومولدات كهربائية. ولم يغفل الأسطول أيضا الألعاب رغبة في إدخال الفرحة على أطفال غزة الذين كانوا يعيشون واقعا غير واقع كثير من أطفال العالم. وهو الواقع الذي لم يعد اليوم مجرد حصار مادي، بل أضحى إبادة جماعية كانوا هم أكثر ضحاياها.
وقد كان للهيئة المغربية لنصرة قضايا الأمة، التي تشرف حساني أن يكون أحد ممثليها ضمن وفد مغربي شارك في أسطول الحرية، بحكم تهممها بقضية المسلمين الأولى؛ قضية فلسطين دور بارز في هذا الأسطول، وكان لوفدها، الذي تشكل من كل الأستاذ عبد الصمد فتحي رئيس الهيئة والمهندس حسن جابري إضافة للمتحدث المهندس لطفي حساني، لقاء خاص مع الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله الذي أجاب الأستاذ فتحي عندما استنصحه للأسطول ولغزة المحاصرة قبيل مغادرة المغرب فقال رحمه الله مُجملا “صبر جميل، والله المستعان على ما يصفون”.
يستذكر الأستاذ حساني لحظات الانطلاقة الأولى للأسطول بدقة رغم مرور قرابة العقد والنصف؛ يوم 27 ماي 2010 في الساعة الثانية عشرة ليلا، انطلاقا من مدينة أنطاليا التركية ثم مدينة اسطمبول، التي شهدت التوديع الشعبي الحافل. وكان على متنه وبالخصوص سفينة مرمرة؛ نشطاء ومتضامنون مع غزة من مختلف الجنسيات والديانات والثقافات واللغات والأعمار والطبقات الاجتماعية من 37 دولة. وقد انصهر كل ذلك على ظهر الأسطول ولا تظهر سوى الرجولة والقلوب الرحيمة والإخاء والإيثار والكرامة الإنسانية والضمير الإنساني. وكانت مساهمة المرأة كبيرة والأكثر تأثيرا في هذه الرحلة. يستحضر حساني تلك المكونات وتلك المعاني بأسلوبه الشيق.
استرسل المتحدث كلامه عن مسير الأسطول، وخاصة سفينة مرمرة التي كانت قلبه، والتي تشرف حساني وإخوانه من وفد العدل والإحسان بالوجود على متنها، وقال إنها كانت بمثابة “مهرجان عالمي متنوع بين فرح وابتهاج ونشيد وغناء، وصيد للسمك نهارا، وسمر الليل شعرا وأناشيد وأنشطة متنوعة” تذكر منها حساني قصيدة للشيخ رائد صلاح نظمها بالمناسبة. كما كان “لعدد كبير من الركاب حظ من الثلث الأخير من الليل وقوفا بين يدي الله عزّ وجلّ صلاة وذكرا ودعاء وتسبيحا، كما كانت في السفينة (مرمرة) مناوبة للحراسة الليلية” يسترجع حساني تلك الأجواء الإيمانية الجهادية.
وبحلول 31 ماي بلغ إلى علم ركاب الأسطول وسفينة مرمرة أن هناك من يلاحق السفينة، ، يقول المتحدث، لذلك اتُّخذت الإجراءات الوقائية. وأشاد بالمواقف الرجولية الخالدة للمشاركين الأتراك في تلك اللحظات الصعبة، بأن طلبوا من جميع المشاركين من الجنسيات الأخرى الدخول للقاعات وترك حراسة السفينة للأتراك حرصا منهم ألا يتأذى أحد من الجنسيات الأخرى، وقد ردّ باقي المشاركين التحية بأحسن منها بأن “رفضوا” الانصياع لأول مرة للجنة التنظيمية رغبة من الجميع في الذود عن سفينتهم وأسطولهم، فكان أن تم تقسيم المشاركين، يواصل حساني سرد تلك الأجواء العصيبة الممزوجة بعنفوان نضالي وجهادي كبير، لمجموعات حراسة مع إصرار الأتراك أن يكون لهم سطح السفينة نظرا لخطورته.
وقد كان للمرأة النصيب الأوفر، حسب المهندس المغربي من هذا “التمرد” التنظيمي رغبة منهن أيضا في الوقوف على الثغر الجهادي ذاته مع شقائقهن من الرجال، وتولين، بعد مناشدات لهن، وأعينهن تفيض من الدمع حزنا ألا يشاركن في الدفاع عن السفينة. وقد كان ثغر الحراسة الذي كُلف به المغاربة، هو المقدمة اليمنى للسفينة صحبة أشقائهم الجزائريين.
وفي تمام الساعة الرابعة وخمس وعشرين دقيقة فجرا أثناء صلاة الصبح، وخلال الركعة الثانية، سمع المصلون صراخا من كل جانب إيذانا بحلول هجوم على السفينة، فخُفِّفت الصلاة، يقول حساني، وركض كل واحد لثغر حراسته. ومن يكون غيرهم إنهم سراق الأوطان وقطاع الطرق الصهاينة.
سبق هذا الهجوم الصهيوني، وفق شاهدنا على ذلك العصر، تشويش على جميع وسائل الاتصال، وكان عتاد هذا الهجوم على الأسطول المدني المسالم ضخما جدا؛ جيش ضخم تكون من 30 زورقا حربيا، أربع فرقاطات، غواصتين وثلاث مروحيات. وقد استمات رواد السفينة في الدفاع عنه بكل ما يجدونه من خراطيم مياه، وقطع خشبية وغير ذلك مما ذكره حساني.
وبعد محاولات يائسة من الزوارق الحربية الصهيونية واستعمال الرصاص المطاطي والقنابل الصوتية، قرر الصهاينة اقتحام السفينة عبر كوموندوز أول من المروحية واستعمال الرصاص الحي، وقد تمكن طاقم الحراسة التركي بشجاعتهم وسلميتهم من أسر 3 جنود صهاينة وتجريدهم من سلاحهم، فجنّ جنون الصهاينة، يقُصُّ حساني ذلك الإجرام الصهيوني، فأصبحوا يمطرون كل من على السفينة بالرصاص الحي، وإنزال فرق أخرى من الكوموندوز، ما أدى إلى مجزرة فوق السفينة قتلى وجرحى. وهذا ما دفع المنظمين، إلى الطلب من رواد السفينة عبر مكبرات الصوت الدخول لداخل السفينة وسط تراكم الشهداء والجرحى.
واستمر هذا الوضع إلى حدود السابعة صباحا إذ استولى الصهاينة على السفينة واقتادوا ركابها إلى سطحها بعد تفتشيهم وتكبيلهم وجعلهم يجثون على ركبهم في العراء لما يقرب من 8 ساعات متواصلة تحت الشمس الحارقة وسط تحليق منخفض للطائرات المروحية الصهيونية تخويفا منهم وإرهابا لركاب السفينة.
وقد عاث الصهاينة إتلافا وفسادا في السفينة، ورغم العنجهية فقد لامس ركاب السفينة هلعا وخوفا من الجنود المقتحمين، وروى في ذلك المهندس حساني رواية أن أحد الإخوة اليمنيين المصابين بمرض السكر، ويحتاج حقنة أنسولين في حقيبته، وبعد إلحاح وطلب سمح له الجنود الهلوعين بأخذها محيطين به مصوبين إليه بنادقهم إليه، وما إن أخرج الحقنة حتى فر الجنود مختبئين ومهددين له من وراء الجدر برفع يديه.
وبحلول الثامنة مساء من ذلك اليوم، يسترسل ممثل المغاربة في أسطول الحرية، قاد الصهاينة السفينة لميناء “أسدود” ونصبوا فيه خيما للتحقيق مع الركاب المقيدين في أياديهم واحدا بعد الآخر، من مكتب إلى مكتب بعدد أجهزة التحقيق عندهم.
إزالة الملابس والتفتيش الكلي، التأكد من الهوية، أخذ بصمات اليدين والعينين، تصوير ثم شروع في استنطاقات ماراطونية إلى حدود الرابعة صباحا، وقد أثار حساني قصة أخرى من هلع هؤلاء المغتصبين لفلسطين عن رفض جندي أوامر الضابط المسؤول عنه بركوب حافلة التنقيلات السجنية صارخا خائفا مُصدِّقا قوله تعالى فيهم: لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ.
وقد أُودع حساني وخمسة مشاركين آخرين في السفينة زنزانة واحدة بسجن بمدينة عسقلان المحتلة بعد رفض ارتداء بذلة السجن. ورغم حاجة المعتقلين من ركاب السفينة لقسط من الراحة، يسرد حساني تلك المعاناة القاسية، إلا أن الصهاينة يتقنون فنون التعذيب النفسي فكانوا يطلقون صفارات إنذار قوية، ويصرخون في مكبرات الصوت كل خمسة عشر دقيقة حرمانا للمعتقلين من النوم والراحة.
ورغم محاولات كثيرة من منظمات دولية ودول للإفراج عن المعتقلين من رواد السفينة إلا أن الصهاينة استثمروا كل ثانية للضغط النفسي عليهم ترحيلا من زنزانة لأخرى، وادعاء لاستثناء بعضهم من الإفراج، وضغطا للتوقيع على صكوك اتهام، لكن رباطة جأش المشاركين كسرت كل تلك المحاولات.
ُرحِّل المشاركون من الجنسيات العربية إلى الأردن عبر حافلات استقبلت بحفاوة شعبية كبيرة هناك وتغطية إعلامية وازنة في عرس بطعم النصر، آنذاك فقط اكتشف المشاركون، الذين عزلهم الصهاينة عن العالم، حجم التفاعل الدولي مع الحدث، والتفت العالم كله لغزة وتذكر حصارها الظالم، وبالمقابل تلطخ وجه الصهاينة بعدما أنفقوا عليه مليارات الدولارات، وسنوات من الدعاية المغرضة.
آنذاك أدرك حساني ورفاق مرمرة وأسطول الحرية أن الأهداف الكبرى تحققت؛ وهي كسر الحصار، وإسماع صوت الحصار للعالم، بعدما كان الأسطول أراد تحقيق أهداف صغرى تمثلت في إيصال المساعدات لغزة كانت ستكفي لشهر أو اثنين، لكن الله أراد للمشاركين ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ.
ومن حصار غزة إلى حصار العدل والإحسان، يقف حساني وقفة بليغة مع معاناة الوفد المغربي الذي لم يكن الإرهاب الصهيوني معاناته الوحيدة في رحلة أسطول شكل مصدر فخر لكل من شارك فيه ولدولهم أيضا. فبينما استقبلت عديد من الدول رعاياها المشاركين بحفاوة وبحضور حكومي ورسمي، بل أرسل بعضها لهم طائرات خاصة، يحكي حساني بحسرة وألم، كانت للسلطات المغربية طريقة خاصة واستثنائية في استقبال الوفد المغربي في أسطول الحرية، فقد طوقت وأغلقت كل الطرق المؤدية للمطار بمدينة الدار البيضاء، ومنعت الحشود من الاقتراب منه واستقبال أبطال أسطول الحرية من المغاربة ومن ضمنهم حساني وإخوانه في العدل والإحسان.
ورغم كل تلك المحاولات غير المفهومة كان الاستقبال، حسب حساني، مشهودا في المطار، وتوج الاستقبال بلقاء في مساء اليوم مع الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله الذي ذكّر وفد الهيئة المغربية لنصرة قضايا الأمة بنسبية ما عانوه من الصهاينة مقابل ما عاناه ويعانيه إخوتنا في فلسطين من غطرسة الصهاينة.
وحظي حساني باستقبال خاص في اليوم الموالي في مدينته وجدته في عدة محطات في المطار وقرب مسكنه، وفي ساحة المدينة وانتهى بخيمة موؤودة مرة أخرى من طرف السلطات المحلية في وجدة وإزالة الأعلام الفلسطينية، لكن إصرار المنظمين جعلهم يحولون الحفل إلى داخل البيت.
وختم حساني بتأكيده بأن أسطول الحرية هو أكبر من مجرد حدث بالنسبة للمشاركين، بل كان له تأثير كبير عليهم من كل الجوانب شرفا وتشريفا، فخرا وافتخارا. ولم يزد في نظره الصلف الصهيوني والتضييق المخزني جماعة العدل والإحسان إلى استمرارا وعنفوانا في نصرة القضية المركزية للأمة، قضية فلسطين داخل المغرب وخارجه. وكان من ثمار ذلك أن سميت مدرسة شرعية في غزة باسم مدرسة الشيخ عبد السلام ياسين.