في رحاب التشريع التاريخي للمدونة

Cover Image for في رحاب التشريع التاريخي للمدونة
نشر بتاريخ

خلق الله تعالى آدم عليه السلام ومن بعده أمّنا حواء، ليشكلا أول نواة للأسرة على وجه هذه البسيطة وليؤسسا معا للغاية الاستخلافية التي من أجلها خلق الإنسان، ألا وهي تحقيق العبودية لله تعالى.

ومن حينها وإلى اليوم، كانت الأسرة ولا تزال، الخلية الأولى والأهم، والحجر الأساس لبناء أي مجتمع قوي، كيف ما كان نوعه، تقليديا أو معاصرا .

ولرقي تلك المجتمعات، كان لزاما عليها الاهتمام بالأسرة وبمكوناتها، والاهتمام بدوامها وتنميتها .ولمواكبة التطورات الحاصلة داخل الأمم، وخاصة الأسرة، أصبح واجبا على هذه المجتمعات خلق أطر تشريعية، تنظم العلاقات المختلفة داخلها، وذلك قصد الحفاظ على الروابط الإنسانية والاجتماعية، والتي من شأنها إبقاء هذه المجتمعات مستمرة، وجعل أفرادها يقومون بالأدوار المنوطة بهم.

وقد خصت المجتمعات هذه اللبنة اهتماما عبر الأجيال، وعملت على ضمان حمايتها عبر وضع ترسانة قانونية، لضمان وحدتها واستقرارها.

وفي المغرب، مر التشريع الأسري بثلاث مراحل أساسية:

مرحلة ما قبل الاستعمار:

مع دخول الإسلام إلى هذا البلد الحبيب، وتشرب شعبه بمبادئ هذا الدين السمح، بدأ المغاربة يلتزمون بتشريعاته في عباداتهم ومعاملاتهم وجميع أحوالهم الحياتية اليومية، وكان القضاة ينتقون ويعينون بحسب علمهم ودرايتهم بتشريعات الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وكذا على علم بأحكام المذهب المالكي.

وقبيل الاستعمار الفرنسي أنشئت المحاكم الشرعية، والتي تخصص القضاة فيها في العلوم الشرعية وأحكام المنازعات المنبثقة من مصادر التشريع الإسلامي، وفق المذهب المالكي.

مرحلة الاستعمار:

بعد توقيع معاهدة الحماية، وبسط فرنسا نفوذها على المغرب في 30/3/1912 حاول المستعمر التضييق على المحاكم الشرعية، بتقليص اختصاصات القضاء الشرعي الإسلامي، إلى جانب تأسيس محاكم عرفية تستمد أحكامها من العادات والتقاليد، كما حاول تقزيم دور المحاكم الشرعية، وجعلها مرتبطة بالنظر في قضايا المغاربة المسلمين فقط، وبالموازاة مع ذلك أنشأ مجموعة جديدة من المحاكم، كالمحكمة الفرنسية، والتي تعنى بالأجانب، ومحكمة إسبانية وأخرى عبرية لليهود المغاربة.

مرحلة الاستقلال:

مع خروج المستعمر، وما صاحبه من تراكمات، أبانت عن تضارب في أحكام القضاء، لتباين المرجعيات فيه، الإسلامية من جهة، والعرفية من جهة أخرى، ظهرت الحاجة الماسة إلى وضع قانون مؤطر وموحد لتجاوز الاختلافات بين القضاة بسبب اختلاف المصادر المعتمدة في صياغة الأحكام. وكان الهدف آنذاك استرجاع سيادة أحكام الفقه الإسلامي في مدونة واحدة، تكون معتمدا ومرجعا للقضاة في الأحكام المعروضة عليهم.
في 1957 صدرت مدونة الأحوال الشخصية، بموجب خمسة ظهائر، أولها في نوفمبر 1957، وآخرها أبريل 1958.
توالت عقب ذلك المبادرات لإعادة صياغة نصوص المدونة، بما يتماشى مع المواثيق الدولية التي لم تخدم الشعوب المظلومة قط، بقدر ما خدمت أجندات القوى المستكبرة في العالم … وبدأ ضغط الهيئات النسائية يرتفع في الداخل كأصوات تدعو إلى إنصاف المرأة، من أجل الإصلاح، والالتزام بتلك المواثيق واتفاقيات حقوق الإنسان والمرأة والطفل، والتي ظهر جليا زيف شعاراتها في امتحان طوفان الأقصى.

وكانت أهم مطالب النسويات :

– تكريس مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة وإلغاء التمييز بين الجنسين.

– فرض رؤية علمانية فاصلة بين الدين والحياة العامة في مجتمعنا المسلم.

في 1992 أطلق اتحاد العمل النسائي حملة المليون توقيع، لزيادة الضغط على الحكومة من أجل إصلاح المدونة، أسفر عن تعديل بعض من مقتضياتها في 10 شتنبر 1993. غير أن هذه التعديلات لم تلبّ رغبات الهيئات النسائية الضاغطة والراغبة في تجاوز هويتنا الإسلامية، فانتقلت النسويات إلى خطوة جديدة، عملت من خلالها على وضع خطة عمل إجرائية لتحقيق خططها الهادفة لتفتيت الأسرة، تحت غطاء الدفاع عن حقوق المرأة… وبمساهمة من البنك الدولي، صدر في 1999 ما سمي “بمشروع خطة العمل الوطنية لإدماج المرأة في التنمية”، والتي تباينت الآراء حولها بين مرحب ورافض، ترتب عنها خروج مسيرات منددة قرعت حينها ناقوس الخطر المحدق بسلامة الأسرة و المجتمع على حد سواء، وكانت أهمها مسيرة الدار البيضاء المليونية.

 كانت هذه الخطة منعطفا حاسما لظهور المدونة الجديدة عام 2004 والتي سُمّيت مدونة الأسرة، وحاول المشرع من خلالها تماشيه مع بعض من اتفاقيات المرأة والطفل، وكان من أهم مستجداتها :

– رفع سن الزواج من 15 إلى 18 عاما للرجال والنساء.

– فرض قيود على ممارسة تعدد الزوجات.

– إلغاء بند “عدم زواج المرأة إلا بموافقة والدها أو إحضار 12 شاهدا في حالة وفاته، لإعطائها الحق في الزواج”.

– منح المرأة الحق في طلب الطلاق.

– منح الوالدين حقوقا متساوية في حضانة الأطفال.

– تجريم العنف الأسري، بما فيه الاعتداء الجسدي والنفسي والجنسي .11:00

بعد مرور سنوات على وضع هذه المدونة، بدأت تظهر مجموعة من الاختلالات، وارتفعت ظاهرة الطلاق بوتيرة أسرع مما كانت عليه قبلا، الشيء الذي دفع الفاعلين في المجال للبحث عن مكامن الخلل وعن التجديد في المدونة، علها تخرج الوضع من فوهة البركان. كما أن تأثيرات الخارج سرعت أيضا بهذا الإصلاح المنشود.

فعلى المستوى الدولي، وإثر انعقاد مؤتمر بكين 2020، في دورته الجديدة “بكين + 25″، أعلن رفعه قضايا عن الدفاع عن المساواة، تحت شعار “جيل المساواة” والذي أسفر عن مجموعة توصيات، تهم الأسرة خاصة.

 وكما لم يعد يخفى على أحد، التحالفات الدولية المبرمة مع منظمات دول العالم الثالث خاصة، لزيادة إفقار تلك البلدان وجعلها في تناحر دائم، بقصد بسط السيطرة عليها وعلى مقدراتها…

 فبدأت هذه الهيئات تدفع باتجاه جعل توصيات المؤتمر، سياسات عملية في هذه البلدان، وشحذت من أجلها ملايين الدولارات، ووضعت لها خططا لتتبع الأمر، وأصبح المغرب كما غيره ملزما بتقرير دولي للجنة وضع المرأة، عن الخطوات التي اتخذها في قضايا التمييز ضد المرأة، بل أصبح مطالبا وبشدة، بإجراءات تشريعية شاملة لتعديل أو الغاء مجموعة من القوانين، مثل:

– إلغاء “تجريم العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج” الماده 94 من القانون الجنائي.

– إلغاء تجريم العلاقات المثلية أو الشاذة.

– إلغاء تعدد الزوجات.

– جعل السن الأدنى للزواج 18 سنة فما فوق.

– اقتسام الممتلكات المكتسبة أثناء الزواج.

– تعديل القانون الخاص بتجريم الإجهاض.

– تعديل جميع الأحكام التمييزية، المتعلقة بالطلاق والحضانة والميراث، بالتشاور مع المنظمات النسائية …
وأخيرا، و من خلال اطلاعنا على السياق التاريخي للمدونة، وربطه بالواقع المرير والمحبط لعامة الشعب المغربي، يمكننا القول أنه لا يمكن وبأي صورة من الصور، أن نتحدث عن إصلاح للمدونة، في غياب رؤية شمولية وواضحة لما يحدث في الداخل، وفي غياب رغبة صادقة لحل الإشكالات المطروحة وإصلاح للاختلالات الكبرى على جميع الأصعدة، سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية أو غيرها، لتعود للأسرة مكانتها وهيبتها وكذا قوتها في بناء النشأ الصالح لنفسه والمصلح لغيره.