في اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة.. الغزاوية تكشف “مصداقية العالم”

Cover Image for  في اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة.. الغزاوية تكشف “مصداقية العالم”
نشر بتاريخ

يُطل علينا العالم كل عام بأيام عالمية احتفائية، تنتشي بقوانين واتفاقيات رنانة كمكسب إنساني مشترك ناضل عليها شرفاء وأحرار العالم لانتزاعها من قوى الظلم، تجسد الصور المثالية التي وصلت لها الإنسانية في تشريع قوانين وضعية لضمان الحق في العيش بدون التعرُّض للعنف والتمييز المجحف؛ والتمتع بأعلى مستوى ممكن من الصحة الجسدية والنفسية؛ والحصول على مختلف الحقوق من حق الحياة، والعيش الكريم، والتعليم، والحرية، والتعبير… لا فرق في امتلاكها والتمتع بها سواء بين الجنسين الذكر والأنثى أو بين كافة الناس بمختلف طبقاتهم وأجناسهم وألوانهم..

فما مدى مصداقية العالم في تطبيق وتنفيذ مقتضيات هذه القوانين والمعايير؟

شكلت النساء على ممر العصور الحلقة الأضعف في التمكن من حقوقها التي تضمن لها آدميتها وإنسانيتها ثم مشاركتها الفعالة في بناء مجتمعها وتنميته.. والمتفحص لتاريخ الأمم والحضارات، يجد أن المرأة تعرضت لشتى أنواع الحيف والظلم والعنف. ولو أردنا أن نستقرأ التاريخ لطال بنا المقام، فمشاهد التهميش والعنف التي طالتها في مجتمعات ذكورية متغطرسة متعددة، تكشف عن فداحة ما وقع على المرأة… تنوعت الممارسات والأوصاف بين الحضارات القديمة والأزمنة الغابرة، فمنهم من رآها خطيئة، ولعنة، وشبه إنسان،  ورجسا، ومتاعا، وسلعة خسيسة… إلى غيرها من أبشع الصفات وما لحقها من الممارسات والجرائم التي مُورست بحق كرامة المرأة وحقوقها… ولا يخلو العصر الحديث من بعض هذه الممارسات؛ فمنها من زادت حدتها وعمقها النفسي والجسماني مع السنوات، حتى صار العنف ضد المرأة والفتاة واحدا من أكثر انتهاكات حقوق الإنسان انتشارًا واستمرارًا وتدميرًا في عالمنا اليوم، ولم يزل إلى حد كبير موسوما بمظاهر الإفلات من العقاب والصمت والوصم بالعار.

فأمام تاريخ طويل من نضال العالم العصري/الحديث في مؤتمرات وقمم دولية، تُوجت في النهاية بتسطير ترسانة من الاتفاقيات والحقوق لمناهضة العنف ضد المرأة، خلال القرنين العشرين والحادي والعشرين، وتحديدًا منذ تسعينيات القرن العشرين، ازدادت الأنشطة على المستويين المحلي والدولي من بحثٍ ونشرٍ للوعي ودفاعٍ عن الحقوق بهدف منع كافة أنواع العنف ضد المرأة. فابتداء من المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان لعام 1993، الذي اعترف بالعنف ضد المرأة باعتباره انتهاكًا لحقوق الإنسان، والذي ساهم في الإعلان التالي للأمم المتحدة لعام 1993 بشأن القضاء على العنف ضد المرأة باعتباره أول اتفاق دولي يعرّف العنف ضد المرأة ويتصدى له. لتتوالى بعد ذلك مجموعة من المؤتمرات والجهود بالمزيد من التوصيات والاتفاقيات لمناهضته والحد منه، تُوجت في عام 1999، باعتماد الأمم المتحدة البروتوكول الاختياري لاتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، واعتبرت يوم 25 نوفمبر اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة. لتنخرط بعد ذلك الدول والحكومات والمنظمات في هذه الجهود المبذولة، وتتعالى الأصوات للمزيد من الضغط والانخراط الجاد عن رفع الحيف عن المرأة باعتبارها عنصرا رئيسيا مساهما في تنمية المجتمعات.

وفي هذا الصدد، صدر قانون العنف الدولي ضد المرأة (I-VAWA)، الذي يعد تشريعا مقترحا يعالج مسألة العنف ضد المرأة من خلال السياسة الخارجية لـ“الولايات المتحدة الأميركية” ليدعم إجراءات منع العنف، ومحاسبة مرتكبيه، وحماية الضحايا، إذ إنّه يشتمل على قوانين تختصّ بمنع ممارسة العنف ضدّ المرأة في جميع الظروف.. فأين هي الولايات المتحدة الأمريكية من هذا القانون؟! وأين باقي الدول المنخرطة في هذه الاتفاقيات والتشريعات والموقعة على هذه المواثيق من تطبيقها في فلسطين عموما وغزة التي تعيش منذ أكثر من سنة أبشع حرب إبادة يعرفها التاريخ المعاصر؟

أحيينا السنة الماضية هذا اليوم بعد شهر ونصف من بداية الحرب على غزة، تعالت الأصوات الحرة في كل بقاع العالم لوقف المجازر المتعمدة، والتهجير القسري، والحصار الظالم، وكل أشكال العنف الممنهج الممارس من طرف الكيان الصهيوني الغاصب بمباركة ومشاركة أمريكية غربية، ولا من لبى النداء وسمع الصوت ورأى الحقيقة.. هذا العالم الغربي الذي يدعي موالاته للمرأة والدفاع عن حقوقها وتمكينها من العيش الكريم، ظل أبكم أمام بشاعة ما يحدث بغزة اليوم.

وها نحن هذه السنة بعد مرور أكثر من 400 يوم على هذه الحرب الهمجية الهوجاء، نحيي هذا اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة، الذي اختير له اللون البرتقالي كدلالة لمستقبل أكثر إشراقاً وخلوا من العنف، كوسيلة لإظهار تضامن العالم في القضاء على جميع أشكال العنف. فأين هذا العالم اليوم مما يحدث من جريمة إبادة جماعية منظمة تتعرض لها غزة برجالها ونسائها وأطفالها وشبابها نتيجة العدوان الصهيوني المدعوم بالأسطول المشترك الأمريكي والأوروبي؟ عدوان لم نشهد له سابقة في تاريخ الحروب المعاصرة من ممارسة التوحش والإجرام بحق المدنيين تحديداً، والنساء والأطفال على وجه الخصوص، ضاربين بعرض الحائط القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف التي أعطت اعتبارات خاصة لاحتياجات النساء والأطفال الذين، كما نعلم، يشكلون حوالي 70٪ من المدنيين القتلى، ليتجاوز هذا العنف إلى الجريمة الممنهجة المجتمعية الموصوفة عن سابق الرصد والترصد.. أين هذا العالم المتبجح بشعاراته الرنانة؟!

 تتعرض المرأة الغزاوية خلال هذه الحرب لجميع أصناف العنف والجرائم؛ العنف الجسدي وانتهاك حقها في الحياة بالتطهير العرقي والإبادة الجماعية بشتى أنواع الأسلحة المحرمة دوليا، ناهيك عن الإعدام التعسفي للكثيرات أثناء فرارهن من القصف ونزوحهن بحثا عن ملجأ آمن، منهن من كن يرفعن رايات بيضاء عندما قُتلن بدم بارد. إلى جريمة العنف الاقتصادي؛ بالتجويع القسري والحرمان من المساعدات الإنسانية والحصار، وهدم كل المرافق الحيوية التي كانت تستمد منها قوتها اليومي… وجريمة العنف الصحي؛ المتمثل بالأساس في العنف الإنجابي المنهجي الذي تتعرض له الفلسطينيات في غزة، والتجاهل التام لاحتياجات النساء الحوامل والمرضعات والظروف التي يتعين على النساء الإنجاب في ظلها؛ باستهداف المستشفيات والأطر الطبية ومنع المساعدات الطبية من الولوج إلى غزة، حتى رأينا في عصر موسوم بالتطور أن من الغزاويات من خضعن لعمليات ولادة قيصرية دون تخدير… ناهيك عن العنف الإعلامي وإسكات صورة وصوت الحقيقة في ملاحقة ممنهجة للإعلاميين والإعلاميات، لم نشهد لها سابقة في حروب معاصرة، ولم تسلم المرأة الصحفية المدنية من الاعتداءات الإسرائيلية المباشرة….

لو أردنا استعراض شتى أنواع العنف الممارس على الغزاويات منذ بدأ الكيان الإسرائيلي الغاصب بفرض الحصار على قطاع غزة في يونيو 2007 لما استوعبت المأساة وهمجية العنف مجلدات ومجلدات. وخلال سنوات الحصار، شنّت القوات الإسرائيلية أربعة هجمات عسكرية مدمّرة على القطاع، أسفرت عن مقتل آلاف المدنيين وتدمير عشرات آلاف المنازل والمنشآت المدنية، وأحدثت دماراً واسعاً في مرافق البنى التحتية. كان النساء والأطفال بنك أهداف الهجمات التعسفية على مستوى عال.

ومنذ بداية معركة «طوفان الأقصى» تتعرض غزة لعدوان إسرائيلي ممول بالأسطول المشترك الأمريكي والأوروبي، في جريمة إبادة جماعية منظمة بحق المدنيين تحديداً، والنساء والأطفال على وجه الخصوص، ما يجعل العنف الممارس من سياسة العدوان الإسرائيلي بإدارة أمريكية، يتجاوز العنف إلى الجريمة المجتمعية الموصوفة بحق المدنيين.

نحن لسنا هنا بصدد استعراض الأرقام المؤلمة والمشاهد المحزنة، فهي في تصاعد  كل يوم، والشاشات والمواقع لا تخلو من الحقيقة الواضحة، إنما أردناها صرخة أمام هذا العالم الذي ينهج سياسة الكيل بمكيالين، ويتبنى سياسة ازدواجية المعايير في عدد من الدول الكبرى التي تصدر الأسلحة إلى إسرائيل وتتجاهل الانتهاكات التي تتعرض لها الفلسطينيات، في حين تدعي أن سياساتها الخارجية النسوية ترتكز على حماية النساء وتمكينهن، لم نسمع لها ركزا في المطالبة الجدية بوقف إطلاق النار، سمحت هذه الدول “العظمى” باستمرار هذا الاعتداء، ومنعت محاولات وقف إطلاق النار المتكررة، واستخدمت أمريكا مرات متعددة حق الفيتو في مجلس الأمن ضد مشروع قرار  وقف إطلاق النار، وسمحت بالإفلات السافر من عقاب الجناة ومجرمي الحرب، لتستمر هذه الجرائم التي ترتكبها إسرائيل. وبالتالي، حالت هذه الدول المسيطرة على دواليب القرار العالمي والمستفردة به دون المساءلة عن هذه الجرائم، مما يُضعف إرادة المنظمات الدولية الحقوقية في الضغط لحماية المدنيين أو السماح لدخول المساعدات الإنسانية المطلوبة لتفادي إبادة مجتمع بكامله، منهم النساء على وجه التحديد.

إن مجمل هذه المؤشرات ليضعنا أمام عالم يتمتع بانفصام في الشخصية: عالم التوحش والشذوذ المتمثل في الكيان الصهيوني وأمريكا وحلفائها… هي صرخة تساؤل جدي حول قيمة هذا التاريخ التليد في تجميع مجموعة من القوانين والمواثيق الدولية، ومدى جدوائيتها إن لم تنفعنا اليوم في إنقاذ الإنسانية بغزة، وتعاقب الجناة الصهاينة؛ مجرمي الحرب… ما مصداقيتها إن لم ترفع الحيف عن الشعب الفلسطيني والظلم عن النساء على وجه الخصوص؟

وتبقى الحرب على غزة كاشفة لنفاق العالم وازدواجية معايير المنتظم الدولي وصمته أمام جرائم الكيان الصهيوني… أماطت اللثام عن جدية شعارات حقوق المرأة، وأبانت عن هشاشة مواثيق مناهضة العنف التي تبجح بها العالم منذ سنوات خلت وشنف بها أسماعنا، لنكتشف أنها مجرد شعارات مزيفة تستفيد منها بعض النساء دون أخريات؛ إن تعلق الأمر بحماية المرأة العربية المسلمة خاصة الفلسطينية الغزاوية، يتعامل معها بتنكيس الرؤوس وصم الآذان وغلق الأفواه…

وفي الختام، يظهر أن العالم أمامه مسيرة طويلة من النضال والعمل الجاد، بحشد الجهود والتعبئة والضغط من أجل وقف هذه الانتهاكات الجسيمة التي تتعرض لها النساء المستضعفات في كل بقاع العالم… وإنما تطرقنا للمرأة الفلسطينية-الغزاوية لما تمثله وما مثلته عبر التاريخ من النموذج الأعلى في الظلم وانتهاك حقوق الإنسان وممارسة شتى أنواع العنف عليه، وهذا لا ينسينا جميع نساء العالم المستضعف وحقهن في الكرامة والعدالة والحرية وإيقاف كل ما تتعرضن له من العنف متعدد المظاهر.