1- أسوار قرآنية منسية
عجبت للأسرة يشكو أفرادها من الضيق والضنك وهي مذ أسست لا اعتبار في سيرها لحمى الله عز وجل هل انتهكته أم لا… بل لا دراية لها أحيانا بهذا الحمى الذي حذر عليه الصلاة والسلام من الرعي حوله بله الوقوع فيه فكيف بالانتهاك الدائم له؟
في صحيح سيدنا الإمام مسلم رحمه الله: عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال سمعته يقول: “سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه- إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب”.
يشيد القرآن الكريم أسوارا أخلاقية واضحة المعالم حول حمى الله عز وجل، وما حمى الله عز وجل في هذا المقام إلا أعراض الناس ودماؤهم وأموالهم وقلوبهم. ولأمر ما سميت السورة المبينة لهذه الأسوار الأخلاقية بالاسم الذي كانت تسمى به بيوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأزواجه الطيبات الطاهرات رضي الله عنهن: “الحجرات”… ما أعمقها من إشارة إلى أن الخلق الحسن إن لم يخرج من الأسرة وإن لم يمارس في الأسرة فلا فائدة كبرى ترجى منه…
سورة الأخلاق هي سورة الحجرات! والحجرات رمز لأسرة الأسوة الحسنة صلى الله عليه وآله وسلم…
ففي سورة الحجرات بعد أن يقرع سمعنا القلبي تحذير من أن المؤمنين يمكن أن تصل بينهم الشحناء درجة أن يسعى بعضهم لقتل بعض: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا (الحجرات- 9). بعد هذا التحذير توضح لنا السورة الكريمة مباشرة أسوار الحصن الواقي من الشحناء والتدابر والهلاك المجتمعي. وإنها والله لأصول عميقة منها تنبع خصال مخالطة الناس بخلق حسن. ولا حديث عن الاستقرار الأسري خارج هذه الأسوار لمن كان يرجو الله والدار الآخرة.
· السور الأول
أول أصل في معاملة الناس يزرعه القرآن الكريم في قلب المتعلم دينه وخلقه: ضع في اعتبارك أن أي أخ لك في الإنسانية يمكن أن يكون أفضل منك وأنت لا تدري. خالق الناس بقلب يستشعر مشاركتهم في العبودية لله عز وجل ولا يرى لنفسه على أحد منهم فضلا أو ميزة. النظر إلى الناس بازدراء وادعاء الخيرية نفثة شيطانية خبيثة. كان إبليس المغرق في العبادة أول من تجرأ على احتقار مخلوق مثله معتزا بأصل ناري هو من فضل الله عز وجل وكأنه لعنه الله هو من اختار مادة خلقته متفوقا بذلك على سيدنا آدم عليه السلام ذي الأصل الترابي. وإنهم لتلاميذ سذج للملعون إلى يوم الدين الساخرون من مخالفيهم في العرق أو في اللغة أو في المكانة الاجتماعية أو في أي شئ من لوازم اختبار الحياة الدنيا. ما ألطف وأعذب أنوار الاستجابة لنداء القرآن الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ (سورة الحجرات الآية 11).
لا تغرنك يا ربة الأسرة مهاراتك التي من بها الله عليك أو منبتك الذي اختاره الله لك أو منصبك الذي بوأكيه سبحانه، لا يغرنك هذا فتنظري بعين التحقير يوما إلى امرأة لا تتقن ما تتقنين أو لم تنشأ حيث نشأت أو لم تسعفها ظروفها على بلوغ ما أنت فيه من مكانة اجتماعية عَسَىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ فما يدريك لعلها الآن تدعى في الملكوت الأعلى عند الله عز وجل عظيمة ولعل الله عز وجل يذكرها الآن في ملإ خير منك وممن يحيطون بك.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ (سورة الحجرات الآية 11).
قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره:
قال المفسرون: نزلت في امرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم سخرتا من أم سلمة، وذلك أنها ربطت خصريها بسبيبة – وهو ثوب أبيض، ومثلها السب – وسدلت طرفيها خلفها فكانت تجرها، فقالت عائشة لحفصة رضي الله عنهما: انظري! ما تجر خلفها كأنه لسان كلب، فهذه كانت سخريتهما. وقال أنس وابن زيد: نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم عيرن أم سلمة بالقصر. وقيل: نزلت في عائشة، أشارت بيدها إلى أم سلمة، يا نبي الله إنها لقصيرة. وقال عكرمة عن ابن عباس: إن صفية بنت حيي بن أخطب أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن النساء يعيرنني، ويقلن لي يا يهودية بنت يهوديين! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هلا قلت إن أبي هارون وإن عمي موسى وإن زوجي محمد). فأنزل الله هذه الآية).
حدثت هذه المواقف القليلة والمنفردة والاستثنائية – أما غالب حال أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم عليهم السلام فكان رحمة وصفاء وانجماعا على الله عز وجل والآية لما تنزل وحاشى أن تقع أمهات المؤمنين رضي الله عنهن في مثل هذا عمدا بعد أن بلغهن أمر السماء وخبرها إلا أن يكون نسيانا أو غفلة عابرة هي من صفات كل البشر حاشى الأنبياء عليهم السلام…
ينزل القرآن من فوق سبع سماوات ناهيا ومحذرا، فماذا تقول محترفات السخرية من إماء الله عز وجل وعباده، ماذا عن المجالس والمسامرات الطويلة التي تعقد في بيوت المسلمين لا موضوع لها إلا نقائص الناس وتتبع عوراتهم وجمع أخبارهم والاحتفاظ بها إلى حين، بنية النيل من المعنيين بها وجرح مشاعرهم في الوقت والمجلس المناسبين؟ فبئس المجلس وبئس القلب وبئس المنبت…
هب أن متسولين معدمين ذوي أسمال بالية ثقفوا في طريقهم رجلا كريما متواضعا رقيق القلب نقيه. تحلقوا جميعا حوله وكل يمد يده ويرسل نظرات استعطاف وتوسلات تثير الشفقة وكل يشكو حاله وفقره وحاجات عياله وجوعهم وعريهم… أخرج الكريم نقودا من جيبه بعد أن رق لهم قلبه وهم بقسمتها عليهم بالسوية فإذا قهقهة عالية تنبعث من بين الأطمار المتسخة البالية. نظر الرجل فإذا أرث المتسولين حالا يسخر من متسول آخر بجانبه سقط ثوب من كتفه فانكشفت عظام جسده النحيل. غضب الرجل الكريم وأدخل يده في جيبه ثانية وأخرج كل نقوده وأعطاها كلها للذي سقط رداؤه وانكشفت عظامه، ثم ألقى على الذي ضحك نظرة احتقار وانصرف… ولله المثل الأعلى كلنا متسول فقير إلى الله عز وجل ننتظر فضله وصدقاته سبحانه علينا، فلا يكن أحدنا ولا تكن إحدانا ذلك المتسول الغبي الجاهل بأبسط قواعد الذلة والمسكنة والتبؤس على باب الكريم الغني عز وجل سبحانه…
أنا المكدي وبن المكدي وهكذا كان ابي وجدي) قدس الله سر سيدنا الإمام بن تيمية ونفعنا بمحبته وعلمه.
وما قيل عن الأشخاص يعمم على الجماعات أسرا وشعوبا وأعراقا وتيارات…
لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ (سورة الحجرات الآية 11).
· السور الثاني
مزلق آخر يحذر منه القرآن الكريم يكاد يكون خلف كل شحناء تقع بين خيرين من الناس. وهو من الخطورة والانتشار بمكان، أتناوله في عجالة لعل المقام يسمح قابلا إن شاء الله بالتفصيل فيه. أينما وجدت فرقة وتدابرا بين الأسر أو بين أفراد الأسرة الواحدة ستجده حتما. حطب مفضل عند شياطين الإنس والجن لأنه سريع الاشتعال ولا يترك للود بين الناس بقية. نكتشفه إن شاء الله بعد قليل…
لنتدبر هذين المشهدين من حياة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛
المشهد الأول:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “بال أعرابي في المسجد فقام الناس إليه ليقعوا فيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوه وأريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسّرين ولم تبعثوا معسّرين” 1 .
المشهد الثاني: من صحيح البخاري – كتاب التهجد – باب فضل قيام الليل
عن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: “كَانَ الرَّجُلُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى رُؤْيَا قَصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَرَى رُؤْيَا فَأَقُصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُنْتُ غُلَامًا شَابًّا وَكُنْتُ أَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِي فَذَهَبَا بِي إِلَى النَّارِ فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ الْبِئْرِ وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ وَإِذَا فِيهَا أُنَاسٌ قَدْ عَرَفْتُهُمْ فَجَعَلْتُ أَقُولُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ النَّارِ قَالَ فَلَقِيَنَا مَلَكٌ آخَرُ فَقَالَ لِي لَمْ تُرَعْ فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فَكَانَ بَعْدُ لَا يَنَامُ مِنْ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا”.
في المشهد الأول أخطأ الأعرابي خطأ جسيما وأخطأ الصحابة عندما قاموا ليقعوا فيه، وفي المشهد الثاني كان سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يحتاج إلى توجيه هام وهو الغلام الشاب…
فكيف تدخل المربي الأول صلى الله عليه وسلم؟
لماذا لم يقل عليه الصلاة والسلام للأعرابي إنك جاهل بأصول ومبادئ الدخول إلى المسجد ولماذا لم يقل عليه الصلاة والسلام للصحابة رضي الله عنهم إنكم مندفعون وغير حكماء…؟ لماذا لم يقل لسيدتنا حفصة رضي الله عنها اذهبي إلى أخيك وحذريه من التفريط في قيام الليل، إنه مقصر في أمر هام للغاية…؟
كلمات من قبيل:
إنك جاهل
إنكم تتصرفون باندفاع
إنه مقصر في أمر هام
لن تجدها في قواميس التوجيه النبوي مطلقا
لماذا؟
لأن فيها طعنا في أشخاص الناس وقدحا فيهم، كان عليه الصلاة والسلام يعيب الفعل ولا يعيب الشخص…
إنها رؤية للناس نحتاج إلى تعلمها، قد يصدر من الشخص تصرف معيب لكن أكبر خطإ نعالج به الأمر هو رفض الشخص جملة وتفصيلا ووصفه بالأوصاف القادحة ونشر ذلك بين الناس…
في اللغة العربية يسمى الطعن في الأشخاص لمزا ويسمى العائب لامزا ويسمى المبالغ في ذلك لمزة: ويل لكل همزة لمزة.
إذا لقيتك تبدي لي مكاشرة
وإن أغب فأنت العائب اللمزه ولا تلمزوا أنفسكم
أرق على الأخطاء ماء التصحيح اللطيف، وخاطب الناس وذكرهم بقيمتهم عند الله عز وجل بكلمات من قبيل: “إنما بعثتم ميسرين” وضع نصب أعين المنصوح إيجابيات ما تدعوه إليه: “نعم الرجل عبد الله لو…”.
لكن احذر من الخلط بين رفض الفعل القبيح والعيب في شخص الذي صدر منه: نكره المرض ولا نكره المريض، بل نتمنى له الشفاء ونعتني به ولا تحجبنا سيئاته عن حسناته.
ليست المسألة تقنية في التواصل ولا شكلا حضاريا في التعامل ولا وسيلة لربح القلوب واستمالتها.
لا إن للأمر أساسا قلبيا هو الحياء من الله عز وجل والنظر إلى الناس على أن باب التوبة مفتوح أمامهم وأن أعمالهم بخواتيمها وأنهم عباد لله عز وجل إن شاء أصلحهم وأصلح بهم.
فاحذر أيها المربي من أن تتشرب الناشئة منك وصف الناس بالقوادح واستسهال التقليل من أقدارهم في غيابهم وحضورهم، وإذا ابتليت فاستتر خلف حجاب الصمت لعل لجم الجوارح يستحيل نورا قلبيا يصبح معه احترام الناس طبعا بغير تكلف، إذ الحلم بالتحلم والصبر بالتصبر.
من شأن إشاعة هذا الخلق واستنباته في الأسرة أن ينعكس على مختلف مناحي الحياة ومؤسساتها، من ثماره مثلا أن ينتقد أفراد الفريق الواحد في أي مؤسسة أداء بعضهم البعض وأن يقترحوا مقارباتهم وتصوراتهم – مهما كانت متضاربة – دون أن تنشأ الحزازات بينهم ودون أن يعتبر الانتقاد الصريح اللبق المتأدب القاصد انتقاصا من شأن من يختلف معه أو مسا بهيبة قائد المؤسسة أو الفريق.
ما أحوجنا إلى هذه القطيعة مع الطعن والطعن المضاد في الأشخاص خاصة في مرحلة دقيقة كالتي تمر منها الأمة، مرحلة لا غنى فيها وبعدها عن التعالي على صغائر الأمور ولا مفر فيها من جمع كل الطاقات وتجييشها للبناء. وإلا فإن سنة الله عز وجل في التاريخ عودتنا على أن تلتحق بمزبلة النكرات كل البهرجات المبنية على الكبر واللمز. وما ما آل إليه أباطرة الاستبداد وصانعوه في بعض أقطارنا أخيرا ببعيد نسأل الله العافية: فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
وتأمل الخصومات المتشنجة بين الآباء وأبنائهم أو بين الأقارب تجد طرفيها غالبا أو دائما يطعن بعضهم على بعض… بالمقابل أغلب التجارب التربوية الناجحة تحكمها علاقة احترام بين الأشخاص يبتسم بعضهم لبعض علامة على التقبل المتبادل ثم بعد ذلك يكون الإصغاء والتناصح والقلوب صافية ومتآلفة… وإنه لمن الغباء أن تنتظر ممن تسبه وتطعن في شخصه أن يقبل منك نصيحة وتوجيها!
ولا تلمزوا أنفسكم أي لا يطعن بعضكم على بعض.
بقيت أربعة أسوار نكتشفها إن شاء الله بعد هذا الشعاع القرآني العجيب.
2- إشارة أخرى
معلوم أن قول الله عز وجل: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وصفه أحد أخبر الناس بالقرآن الكريم – سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه – بأنه أجمع آية في القرآن الكريم. عندما أراد الله عز وجل أن يجمع أوامره لنا ذكر سبحانه العدل مقرونا بالإحسان، في إشارة إلى أنه لا غنى للناس وللمجتمعات عن مطلبي العدل والإحسان معا. يريد منا الله تعالى أن نقيم العدل بنية عبادته والتقرب إليه، ويريد منا سبحانه أن نؤسس وجودنا الفردي والمجتمعي الدنيوي المؤقت على قيمة نشدان الإحسان بمعانيه المختلفة: إتقانا لأعمال القلوب والجوارح وإكراما للمخلوقات وعبادة لله كأننا نراه فإن لم نكن نراه فهو سبحانه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
تحذير من إسلام الزهادة المنسحب من ساحات البناء والسعي.
ثم تحذير من إحقاق للحق لا يكون فيه القلب عاكفا على باب الله عز وجل وملتمسا رضاه وعفوه.
يريد الله عز وجل مؤمنا منخرطا في تشييد دولة عادلة ومستجيبا – من حيث القلب – وناشرا لدعوة الأنبياء جميعا إلى عبادة الله عز وجل.
الأمر الجامع إذن هو دعوة ودولة؟
لا
هناك بعد آخر…
قد يشغلنا هما الدعوة والدولة عن أمر هام
إن الله يأمر بالعدل والإحسان دعوة ودولة لكن إذا أكملنا الآية نقرأ: وإيتاء ذي القربى
حذار من أن ينسينا هما الدولة والدعوة أمر ذوي القربى، أمر الرحم، أمر الأسرة.
دعوة ودولة ورحمة: هنا فقط يكتمل الأمر الجامع لله عز وجل.
وليقرأ الراغب في التوسع مثل قوله سبحانه في سورة البقرة: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ.
لا يتحقق معنى إيتاء ذي القربى بالاجتماع على طعام شهي تعده أسرة لأسرة والألسنة حداد، هذا يجرح هذا والبعض يتعالى على بعض.
قول معروف ومغفرة خير من صورة إيتاء ذي القربى تختبئ خلفها نفس خبيثة تؤذي الأقارب وتمن عليهم…
نعم يمكن أن نفهم: إيتاء ذي القربى على أنه فرع عن الإحسان وهذا صحيح لكن ورود الفرع بعد الأصل دليل على أهميته وخطورة التقصير فيه على الأصل نفسه.
حتى عندما أراد الله سبحانه عز وجل تلخيص أمره في كلمات قليلة لم يترك أمر التماسك الأسري لاستنتاجنا واستنباطنا بل ذكره سبحانه مفصلا واضحا.
نعود إلى الأصول الأخلاقية بعد أن نكون قد سجلنا مرة ثالثة مركزية أمر الأسرة والرحم في أمر الله عز وجل وشريعته.