فن الطعام بين درك الشهوات وطلب الآخرة والعبادات

Cover Image for فن الطعام بين درك الشهوات وطلب الآخرة والعبادات
نشر بتاريخ

الحمد لله الذي أحل لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث وجعل ذلك من صفات نبيه صلى الله عليه وسلم المذكورة في محكم آياته: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ صدق الله العظيم.

من بين الأسئلة المتداولة بين غير قليل من المهتمين بالعلوم الشرعية سؤال: “مكانة تجلي صحبة الصالحين في إتقان فن الطعام وجدواه وجماليته وشكله”.

أستشف في كثير من المواطن المكتوبة والمسموعة من بعض الزاهدين؛ أصدقاء كانوا أو زملاء أو أقارب، فهماً لحرفة الطعام أنها حرفة شهوة وبطن، ومدخل من مداخل الشيطان، وباب منه تهوي النفس في السفاسف ودركاتِ أذى الروح والأبدان!!

ليس الاهتمام بفن الطعام غفلة عن ركب الصالحين والنورانيين ممن يقضون ساعاتهم بين كتب الطبراني وابن الجوزي وابن كثير وغيرهم من علماء الأمة قديمهم وحديثهم رحمة الله عليهم أجمعين.. وليس الاهتمام بفن الطعام يشجع على فتور همة العبادة لانشغال صاحبه بشغل المعدة والتخمة والسكر والطير واللحم وما لذ وطاب!!

قال أحد السلف الصالح: “إني لأحتسب لله أكلتي وشربتي كما أحتسب نومتي وقومتي”.. ولهذه الفلسفة الأثر الكبير في ترشيد نظرة المسلم للغذاء وترشيد التعامل معه؛ فهو وسيلة لا غاية يجهد في سبيل تحقيقها إشباعا لرغباته وشهواته.

اهتمام الأم بغذاء عيالها بمكوناته وزينته، واهتمام الزوجة بأذواق أهل بيتها والعناية بالصحن والمائدة ولو كان حساء ذرة بماء، هو فنّ طعام وقبله عبادة تنال بها الرضا والأجر إن سبقتها النية، وعبادة خدمة الأهل ورعايتهم.

أما اهتمام العامل بهذه الحرفة فهو أمر فني علمي وباب عبادة عظيم إن شاء الله تعالى، وهنا أجيب السائلين:

إن صحبة الصالحين والأخيار لها أثر في كل حياة المؤمن، وبوار هي تلك الصحبة إن لم تزرع أخلاقا طيبة في معاملات المسلم مع المسلم، بوار هي إن لم تنبت صدقا وإحسانا.

ترقي المؤمن في درجات الإيمان والإحسان يوجب معه الترقي في صناعة دنياه.. فيطلب الآخرة بأعمال الدنيا.. ليجعل من مهنته عبادة يطلب بها وجه الله؛ ليس حصرا في الكسب الحلال والإنفاق على الأهل إنما أيضا في تفاصيل ممارسة الحرفة.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خير الكسب العامل إذا نصح” (رواه أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه)، والنصح في مهنة الطباخ المؤمن يبدأ باستشعار عظمة الخالق في ما خلق في الأرض من طيبات: نبات وطير ولحم وسمك وعسل ولبن وماء… التفكر في خلقها وألوانها وتصنيفها وتشابهها واختلافها.. يقول سبحانه وتعالى في سورة فاطر: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ۚ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ.

من موجبات التمكن في حرفة فن الطعام الإلمام بأصل المواد وتركيبتها ليتمكن المحترف بعدها من صناعة أطباق تحترم البدن وتصونه وتعزز الذوق وتمتعه، فكيف بالعامل وهو يذكر اسم الله ويستحضر جلال خلقه وهو يعالج ما يعالج من الطيبات أن لا يكون بذلك من أهل الذكر وإن كان لباسه وزرة وليس جلبابا وقبلته الفرن لا الكعبة..فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ.. ثبوت هذه النية يسوق إلى احترام المنتوج وعدم الإسراف فيه أو تبذيره تقديرا له لأنه رزق الله وخلق الله.

تتبع هذه المرتبة مرتبة أخرى؛ هي الحرص على تجويد العمل وإتقانه. أؤمن أن حب العمل هو مفتاح النجاح فيه عموما، وأؤمن خصوصا أن الحرف اليدوية إن لم يكن دافعها الحب والاهتمام فلا حاجة للعامل فيها أن يقضي عمره بين الجلود أو الأخشاب أو التراب أو اللحوم يندب ساعات عمله وعمره، ويندب معهما كل من كان سببا له في شقائه وسوء حظه!!

حب فن الطعام باب للإحسان فيه وإليه، كما ذكرت سالفا، فالمؤمن غايته الإحسان، وهو لا يرضى بعمله منقوصا، ولا يقبل إلا أن يكون متكاملا تاما محتوى وشكلا، يعكس حبه وإيمانه وأخلاقه.. عمل يكون له رحمة، قال رسول الرحمة صلوات ربي عليه: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه” (أخرجه أبو يعلى والطبراني)، وما أحوجنا في زمننا هذا أن نجوّد أعمالنا اليدوية والمكتبية والثقافية والعلمية.. ولا صحوة أو قومة لنا وما زلنا نطلب الجودة عند غيرنا وضعفها عندنا ينخرنا ويثبط سيرنا.

ومرتبة أخرى وليست أخيرة أختم بها؛ هي اهتمام الطباخ بجمالية الصحن وشكله، إنما هي موهبة لها أصلها وتتطور مع الاطلاع والبحث والممارسة.. الأصل عند المؤمن هي تمام إنسانيته بثبات أخلاقه وسلامة نيته وصحبته.. تمام الإنسانية أصلها الحفاظ على الفطرة السليمة التي لا تميل إلا للجميل؛ صورة وصوتا وحسا وروحا، وتنفر من كل شاذ في المعنى والمنظور.. ولا يكتمل إحسان الطباخ إلى طبخه إلا بتقديمه بشكل يعكس كل ما سبق..

هي رحلة عبادة مع كل طبق، رحلة تفكر وبسملة وحمد وتسبيح..

فسبحان من عدّد لعباده أسباب ذكره، وجعل عنايتنا بأعمال دنيانا بابا لرحمته في الآخرة.