فشرب حتى ارتويت

Cover Image for فشرب حتى ارتويت
نشر بتاريخ

يقول أهل الحديث أن هذه الجملة لا تصح لفظا عن سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه. ولكني أرى أن معناها تصدقه صحبة أكثر من ثلاث وعشرين سنة، ويصدقه حال الصديق في مواقف مؤثرة وعجيبة تزخر بها كتب السيرة النبوية تبين مدى حبه بل تفانيه في حب المصطفى صلى الله عليه وسلم، أذكر هنا بعضها

–  جاء في البداية والنهاية “قام أبو بكر في الناس خطيبا ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم وثار المشركون على أبي بكر … وضرب ضربا شديدا ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وجاء بنو تيم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي بكر وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله ولا يشكون في موته… فجعل أبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب. فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه ولم ؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا وقالوا لأمه أم الخير: انظري أن تطعميه شيئا أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه وجعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: والله مالي علم بصاحبك.

فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله؟ … قالت: سالم صالح.

قال: أين هو؟ قالت: في دار ابن الأرقم، قال: فإن لله علي أن لا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأمهلتا حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس، خرجتا به يتكئ عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فأكب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله وأكب عليه المسلمون، ورق له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة. فقال أبو بكر: بأبي وأمي يا رسول الله ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي…” [1].

فرضي الله عنه وأرضاه رفض الأكل والشرب والعلاج حتى يطمئن أن رسول الله بخير ولم يكفه خبر الصحابية رغم أنه متأكد من صدقها، فلن يرتاح ولن يطمئن ولن يأكل ولن يشرب حتى يرى حبيبه صلى الله عليه وسلم ويملأ عينيه بطلعته البهية؛ فهي الشفاء وهي الدواء لكل داء.

– جاء في كتب السيرة عن سيدتنا عائشة: “… أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة، في ساعة كان لا يأتي فيها. قالت: فلما رآه أبو بكر، قال: ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الساعة إلا لأمر حدث. قالت: فلما دخل، تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله… قال: “إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة”. قالت: فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، قال: الصحبة. قالت: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ” [2].

من يبكي فرحا لمفارقة الأهل والأحباب والإقبال على هجرة مجهولة العواقب كثيرة المصاعب؟

إنه المحب الولهان الذي تنسيه مرافقة محبوبه صلى الله عليه وسلم الدنيا وما فيها وما عليها.

– ونأتي أخيرا لقصة العنوان؛ جاء في حديث طويل يرويه الصديق للصحابة يحكي لهم خبر الهجرة: “وقام قائم الظهيرة (اشتد الحر)، فرميت ببصري هل أرى من ظل فآوي إليه، فإذا صخرة، أتيتها فنظرت بقية ظل لها فسويته، ثم فرشت للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فيه، ثم قُلت له: اضطجع يا نبيَّ الله، فاضطجع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم انطلقت أنظر ما حولي هل أرى من الطلب (الذين يبحثون عنا من المشركين) أحداً، فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه .. فقُلْت: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم، قُلْت: فهل أنت حالب لبنا لنا؟ قال: نعم، فأمرته فاعتقل شاة من غنمه، ثم أمرته أن ينفض ضرعها من الغبار، ثم أمرته أن ينفض كفيه، فقال: هكذا، ضرب إحدى كفيه بالأخرى، فحلب لي كُثْبة (قليل) من لبن، وقد جعلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إداوة على فمها خرقة، فصببت على اللبن حتى برد أسفله، فانطلقت به إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فوافقته قد استيقظ، فقُلت: اشرب يا رسول الله، فشرب حتى رضيت”.

يبين هذا الحديث مرة أخرى الدرجة العالية التي بلغها حب أبي بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ جعلته يهتم بأدق الأمور في أكله وشربه، ويسهر على راحته بكل ما أوتي من جهد دون كلل ولا ملل. فرغم أنهما يتكبدان نفس مشاق السفر من تعب وعطش وجوع ولهيب شمس وخوف رصد، إلا أن الصديق رضي الله عنه وحين تسنح فرصة للاستراحة يستثمرها كلها لإسعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيحرص على أمانه ويتأكد أن لا أحد يتبعهم، ويهيئ له المكان الوحيد في الصحراء القاحلة (بقية ظل تحت صخرة) ليريح عليه جسده الشريف، ويؤمِّن له طعاما باردا نظيفا بما أوتي من وسائل وإمكانيات، ثم ينتظر انتباهه من نومه حتى يناوله ما هيأ له من شراب، ثم يطلب منه مباشرة أن ينطلقوا خوفا من أن يصل إليهم طالب. كل هذا يفعله رضي الله عنه دون أن يفكر في راحته هو.

جملة واحدة تلخص لنا حياة الصديق مع رسول الله أجابه بها وهو يبكي حين أثنى عليه صلى الله عليه وسلم أمام الصحابة “وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول اللّه”.

علم رضي الله عنه أن محبته صلى الله عليه وسلم هي المنجية عند الله مصداقا لقوله تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين [سورة التوبة، الآية: 24] فلزمها، فأثمرت  ما رأينا من حسن معاملة وتفان في الخدمة وحسن اتباع، وقرأ قوله تعالى: النبِي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ فوهب له نفسه وماله ووقته وأسرته وكله رضي الله عنه وأرضاه.

ولقد كان المصطفى يبادله نفس الحب، فلم يرض صلى الله عليه وسلم بصاحب في الهجرة غيره واختاره من بين جميع الصحابة لينال شرف “ثاني اثنين إذ هما في الغار”. فقد كان أبو بكر كثيرًا ما يستأذن رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم في الهِجرةِ فيقول له رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: لا تَعجلْ لعلَّ الله يجعلُ لك صاحبًا”.

ويروي البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ. فَبَكَى أَبُوب َكْرٍ الصِّدِّيقُ “رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ”…  فقَالَ النبي: يَا أَبَا بَكْرٍ لَا تَبْكِ، إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتُهُ، لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ [3] إِلَّا سُدَّ إِلَّا بَابُ أَبِي بَكْرٍ”.

فاللهم صل على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم كلما ذكرك وذكره الذاكرون وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون، وارض عن سيدنا أبي بكر، واحشرنا معهم يا رحيم.


[1] البداية والنهاية، ج 3، ص 41.

[2] سيرة ابن هشام، ج1، ص 485.

[3] كان للأنصار أبواب من بيوتهم للمسجد النبوي فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلقها كلها إلا باب أبي بكر تكريما له، فقالوا: يا رسول الله سددت أبوابنا، فقال: ما أنا سددتها ولكن الله سدها.