فرحة المولد النبوي كما تربينا عليها

Cover Image for فرحة المولد النبوي كما تربينا عليها
نشر بتاريخ

كلما هل هلال الربيع النبوي، هلت معه كل معاني الفرح والبهجة والسعادة. كيف لا، وهو الربيع الذي أشرقت فيه أنوار سيد الخلق، وأشرفهم وأزكاهم عليه أفضل الصلاة والسلام.

وكلما حلت ذكرى المولد النبوي، حلت معها بعض الذكريات الجميلة، التي تظل لصيقة بهذه المناسبة العظيمة.  

مما يسكن ذاكرتي مذ وعيت على الدنيا أنه ما إن يدخل شهر ربيع الأول، حتى تبدأ حالة استنفار بالبيت، فتبدأ عملية تبييض الحيطان ودهانها، وتنظيف كل أركان البيت، وتغيير الأفرشة، وبسط الأغطية المطرزة بأجمل الألوان؛ التي كانت لا تخرجها أمي من أدراجها إلا لليوم الكبير والضيف العزيز.

كان المولد مناسبة تجتمع فيه نساء الحي لتحضير الحلويات، يتقاسمن المجهود والمنتوج، في جو مفعم بالفرح والبهجة، كنا لا نلمسها في أحاديثهن ولا في أمداحهن التي كانت تكسر ساعات العمل فقط، وإنما أيضا في طعمها اللذيذ، وشكلها الجميل، حتى إن بعضها لم يكن يُحضَّر إلا لهذه المناسبة، تعظيما وتشريفا لها.

والجميل أيضا في ذلك الاجتماع، هو تلك الأمداح التي كن يرددنها، وبنظم لم أكن أفهم منه آنذاك إلا “لا لا مينة ولدات النبي”، فكنت أعتقد أن “لا لا مينة” هي إحدى الجارات وضعت مولودا ميمونا، حلت معه البركة على بيتنا وعلى الجيران، كيف حصل هذا الفهم؟ لا أدري.

كما لم أكن أفهم رمزية العلم الأبيض -الذي كانت جدتي تهرع إلى رفعه بسطح البيت، ما إن ترى هلال شهر الربيع النبوي- سوى أنه زينة كباقي الزينات، تزين به شرفات ونوافذ وأسطح الجيران، حتى علمت فيما بعد أنه إعلام أولا بدخول الربيع النبوي، ورمز يدل على أن البيت به احتفال.

وعلى الرغم من كل تلك الاستعدادات القبلية – التي كانت تقوم بها الأسر مع مطلع الشهر النبوي – إلا أن ليلة الثاني عشر كانت لها طقوس وعادات، تحرص فيها النساء على إحياء الليلة إلى مطلع الفجر، في تحضير “الثريد” و”العصيدة”، والفطائر والخبز الإسفنجي المنسم بالسمسم. وأصواتهن تعلوا بالمديح، والجميل فيه أنه كان عبارة عن نظم دارجي يحكي قصة حمل وولادة السيدة آمنة.

لم أكن أفهم معنى قصة حمل وولادة السيدة آمنة في سياقها الديني، بل كنت أعتقدها واحدة من نساء الجيران التي لا نعرفها إلا بالاسم، وأن موعد ولادتها هو فجر الثاني عشر من ربيع الأول.

وما كان يؤكد لي ذلك هي زغاريد النساء التي كانت تنبعث من البيوت مع فجر ذلك اليوم، فكنا ننتفض نحن الأطفال من أفرشتنا من دون أي كسل أو تثاؤب، فنعلم أن “للا آمنة” وضعت مولودها، وكم كنا ننتظر تلك اللحظة حتى نأخذ نصيبنا من طلاء الحناء دون نقشها، واكتحال أعيننا، معتقدين أن النفساء هي من شاركت معنا حنتها وكحلها.

والفرحة العارمة كانت لحظة ارتداء القفطان التقليدي والبلغة الجديدة، وهو اللباس الذي كانت تلبسه النسوة والفتيات على حد سواء في تلك المناسبة، فيما كان لباس الذكور “الدراعية” أو الجلباب أو “الجبدور” التقليدي، حتى نلتف على مائدة الفطور؛ التي كنا لا نراها بتلك التنوع إلا في عيد المولد الشريف.

كنا نحظى ليوم كامل باللعب والمرح دون أي زجر أو نهر، رغم تعالي أصواتنا، إلا من توجيهات مؤدبة، لكن كانت تتردد على مسامعنا جملة مفادها: “أننا دزنا في وجه النبي”؛ أي لم نعاقب لوجه النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك أحببناه، وأحببنا المناسبة بسبب كل مظاهر الاحتفال والفرحة واللمة العائلية التي كانت ترافق اليوم بأكمله؛ والذي كان يختم بأمداح ما بين صلاة المغرب والعشاء، يشترك فيها هذه المرة كل أفراد العائلة.

على الرغم من الفهم البسيط للذكرى ونحن أطفال، إلا أنها عادات غرست في قلوبنا وعقولنا معان عميقة، أدركت بعدها يقينا بالنص الشرعي أنه بالفعل؛ اتباعه نجاة، وسنته حياة، وذكره دواء، ومنهجه رحمة، ليس لي فقط وللجيران، وإنما للعالمين أجمعين، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (الأنبياء، 107).

فاللهم صل وسلم على المبعوث رحمة للعالمين.