فرحة الصائم عند لقاء ربه

Cover Image for فرحة الصائم عند لقاء ربه
نشر بتاريخ

وأما فرحه عند لقاء ربه: فيما يجده عند الله من ثواب الصيام مدخراً فيجده أحوج ما كان إليه كما قال تعالى: وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً، وقال تعالى: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً، وقال: فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره وقد تقدم قول ابن عيينة: أن ثواب الصيام لا يأخذه الغرماء في المظالم بل يدخره الله عنده للصائم حتى يدخله به الجنة. وفي المسند “عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس من عمل يوم إلا يختم عليه”. وعن عيسى عليه السلام قال: (إن هذا الليل والنهار خزانتان فانظروا ما تضعون فيهما فالأيام خزائن للناس ممتلئة بما خزنوه فيها من خير وشر، وفي يوم القيامة تفتح هذه الخزائن لأهلها فالمتقون يجدون في خزائنهم العز والكرامة، والمذنبون يجدون في خزائنهم الحسرة والندامة).

والصائمون على طبقتين:

إحداهما: من ترك طعامه وشرابه وشهوته لله تعالى يرجو عنده عوض ذلك في الجنة فهذا قد تاجر مع الله وعامله والله تعالى يقول إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً ولا يخيب معه من عامله بل يربح عليه أعظم الربح وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنك لن تدع شيئاً اتقاء الله إلا أتاك الله خيراً منه” 1 فهذا الصائم يعطى في الجنة ما شاء الله من طعام وشراب ونساء. قال الله تعالى: كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية قال مجاهد وغيره: نزلت في الصائمين. قال يعقوب بن يوسف الحنفي: بلغنا أن الله تعالى يقول لأوليائه يوم القيامة: يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة وغارت أعينكم وجفت بطونكم كونوا اليوم في نعيمكم وتعاطوا الكأس فيما بينكم: كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية. وقال الحسن: (تقول الحوراء لولي الله وهو متكئ معها على نهر العسل تعاطيه الكأس: إن نظر إليك في يوم صائف بعيد ما بين الطرفين وأنت في ظمأها حرة من جهد العطش فباهى بك الملائكة وقال: انظروا إلى عبدي ترك زوجته وشهوته ولذته وطعامه وشرابه من أجلي رغبة فيما عندي اشهدوا إني قد غفرت له فغفر لك يومئذ وزوجنيك). وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون لا يدخل منه غيرهم”. وفي رواية: “فإذا دخلوا أغلق”. وفي رواية: “من دخل منه شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً”. وفي حديث عبد الرحمن بن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في منامه الطويل قال: “ورأيت رجلاً من أمتي يلهث عطشاً كلما ورد حوضاً منع منه فجاءه صيام رمضان فسقاه وأرواه” 2 . وروى ابن أبي الدنيا بإسناد فيه ضعف عن أنس مرفوعاً: “الصائمون ينفح من أفواههم ريح المسك ويوضع لهم مائدة تحت العرش يأكلون منها، والناس في الحساب”.

وعن أنس موقوفا: “إن لله مائدة لم تر مثلها عين ولم تسمع أذن ولا خطر على قلب بشر لا يقعد عليها إلا الصائمون”. وعن بعض السلف قال: (بلغنا أنه يوضع للصوام مائدة يأكلون عليها والناس في الحساب فيقولون: يا رب نحن نحاسب وهم يأكلون، فيقال: إنهم طالما صاموا وأفطرتم وقاموا ونمتم. رأى بعضهم بشر بن الحارث في المنام وبين يديه مائدة وهو يأكل ويقال له: كل يا من لم يأكل واشرب يا من لم يشرب. كان بعض الصالحين قد صام حتى انحنى وانقطع صوته فمات، فرآه بعض أصحابه في المنام فسأله عن حاله فضحك وأنشد:

قد كسي حلة البهاء وطـافت ** بالأباريق حوله الخـدام

ثم حلى وقيل يا قارئ ارقه ** فلعمري لقد براك الصيام

اجتاز بعض الصالحين بمناد ينادي على السحور في رمضان: يا ما خبأنا للصوام فتنبه بهذه الكلمة، وأكثر من الصيام.

رأى بعض العارفين في منامه كأنه أدخل الجنة فسمع قائلاً يقول له: هل تذكر أنك صمت لله يوماً قط فقال: نعم قال فأخذتني صوانئ النار من الجنة. من ترك لله في الدنيا طعاماً وشراباً وشهوة مدة يسيرة عوضه الله عنده طعاماً وشراباً لا ينفذ وأزواجاً لا يمتن أبداً.

شهر رمضان فيه يزوج الصائمون، في الحديث: “إن الجنة لتزخرف وتنجد من الحول إلى الحول لدخول رمضان، فتقول الحور: يا رب اجعل لنا في هذا الشهر من عبادك أزواجاً تقر أعيننا بهم وتقر أعينهم بنا”. وفي حديث آخر “أن الحور ينادين في شهر رمضان: هل من خاطب إلى الله فنزوجه”.

مهور الحور العين: طول التهجد، وهو حاصل في رمضان أكثر من غيره، كان بعض الصالحين كثير التهجد والصيام فصلى ليلة في المسجد ودعا فغلبته عيناه فرأى في منامه جماعة علم أنهم ليسوا من الآدميين بأيديهم أطباق عليها أرغفة بياض الثلج فوق كل رغيف در كأمثال الرمان فقالوا: كل، فقال إني أريد الصوم قالوا له يأمرك صاحب هذا البيت أن تأكل، قال: فأكلت وجعلت آخذ ذلك الدر لاحتمله، فقالوا له: دعه نغرسه لك شجراً ينبت لك خيراً من هذا، قال: أين؟ قالوا: في دار لا تخرب، وثمر لا يتغير، وملك لا ينقطع، وثياب لا تبلى، فيها رضوى، وعيناً، وقرة أعين أزواج رضيات مرضيات راضيات لا يغرن ولا يغرن، فعليك بالانكماش فيما أنت فإنما هي غفوة حتى ترتحل فتنزل الدار. فما مكث بعد هذه الرؤيا إلا جمعتين حتى توفي، فرآه ليلة وفاته في المنام بعض أصحابه الذين حدثهم برؤياه وهو يقول: لا تعجب من شجر غرس لي في يوم حدثتك، وقد حمل فقال له: ما حمل؟ قال: لا تسأل لا يقدر أحد على صفته لم ير مثل الكريم إذا حل به مطيع.

يا قوم ألا خاطب في هذا الشهر إلى الرحمن، ألا راغب فيما أعده الله للطائعين في الجنان، ألا طالب لما أخبر به من النعيم المقيم مع أنه ليس الخبر كالعيان.

من يرد ملك الجنــان ** فليدع عنه التـواني

وليقم في ظلمة الليــ ** ـل إلى نور القرآن

وليصل صوماً بصـوم ** إن هذا العيش فاني

إنما العيش جوار اللـ ** ـه في دار الأمـان

الطبقة الثانية من الصائمين: من يصوم في الدنيا عما سوى الله فيحفظ الرأس وما حوى، ويحفظ البطن وما وعى، ويذكر الموت والبلى، ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا، فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه وفرحه برؤيته:

أهل الخصوص من الصوام صومهم ** صون اللسان عن البهتان والكـذب

والعارفون وأهل الإنس صومهــم ** صون القلوب عن الأغيار والحجب

العارفون لا يسليهم عن رؤية مولاهم قصر ولا يرويهم دون مشاهدته نهر هممهم أجل من ذلك:

كبرت همة عبــــد ** طمعت في أن تراك

من يصم عن مفطرات ** فصيامي عمن سواك

من صام عن شهواته في الدنيا أدركها غداً في الجنة ومن صام عما سوى الله فعيده يوم لقائه. من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت.

وقد صمت عن لذات دهري كلها ** ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي

رؤي بشر في المنام فسئل عن حاله؟ فقال: علم قلة رغبتي في الطعام فأباحني النظر إليه. وقيل لبعضهم: أين نطلبك في الآخرة؟ قال: في زمرة الناظرين إلى الله، قيل له: كيف علمت ذلك؟ قال: بغض طرفي له عن كل محرم، وباجتنابي فيه كل منكر ومأثم، وقد سألته أن يجعل جنتي النظر إليه.

يا حبيب القلوب مالي ســواكا ** ارحم اليوم مذنباً قد أتاكا

ليس لي في الجنان مولاي رأي ** غير أني أريـدها لأراكا

يا معشر التائبين صوموا اليوم عن شهوات الهوى لتدركوا عيد الفطر يوم اللقاء، لا يطولن عليكم الأمل باستبطاء الأجل، فإن معظم نهار الصيام قد ذهب وعيد اللقاء قد اقترب.

إن يوماً جامعاً شمـــلي بهم ** ذاك عيدي ليس لي عيد سواه

وقوله: “ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك”. خلوف الفم: رائحة ما يتصاعد منه من الأبخرة لخلو المعدة من الطعام بالصيام، وهي رائحة مستكرهة في مشام الناس في الدنيا لكنها طيبة عند الله حيث كانت ناشئة عن طاعته وابتغاء مرضاته، كما أن دم الشهيد يجيء يوم القيامة يثغب دماً لونه لون الدم وريحه ريح المسك. وبهذا استدل من كره السواك للصائم أو لم يستحبه من العلماء وأول من علمناه استدل بذلك عطاء بن أبي رباح وروي عن أبي هريرة: أنه استدل به لكن من وجه لا يثبت، وفي المسألة خلاف مشهور بين العلماء وإنما كرهه من كرهه في آخر نهار الصوم لأنه وقت خلو المعدة وتصاعد الأبخرة. وهل وقت الكراهة بصلاة العصر؟ أو بزوال الشمس؟ أو بفعل صلاة الظهر في أول وقتها؟ على أقوال ثلاثة. والثالث: هو المنصوص عن أحمد.

وفي طيب ريح خلوف الصائم عند الله عز وجل معنيان: أحدهما: أن الصيام لما كان سراً بين العبد وبين ربه في الدنيا أظهره الله في الآخرة علانية للخلق ليشتهر بذلك أهل الصيام ويعرفون بصيامهم بين الناس جزاء لإخفائهم صيامهم في الدنيا. وروى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناد فيه ضعف عن أنس مرفوعاً: “يخرج الصائمون من قبورهم يعرفون بريح أفواههم، أفواههم أطيب من ريح المسك”. حكي عن سهل بن عبد الله التستري الزاهد رحمه الله: (أنه كان يواظب على الصيام فمر يوماً بثمار وبين يديه رطب حسن فاشتهت نفسه فرد شهوتها فقالت نفسه: فعلت بي كل بلية من سهر الليالي وظمأ الهواجر فأعطني هذه الشهوة واستعملني في الطاعة كيف شئت، فاشترى سهل من الرطب وخبز الحواري وقليل شوى ودخل موضعاً ليأكل فإذا رجلان يختصمان فقال أحدهما: إني محق وأنت مبطل أتريد أن أحلف لك أني محق وأن الأمر على ما زعمت، قال: بلى، فحلف قال: وحق الصائمين إني محق في دعواي، فقال: هذا مبعوث الحق تعالى إلى هذا السوط بي ثم أخذ بلحيته وقال: يا سهل بلغ من شرفك وشرف صومك حتى يحلف العباد بصومك فيقول: وحق الصائمين ثم تفطر أنت على قليل رطب… والله أعلم).

قال مكحول: يروح أهل الجنة برائحة فيقولون: ربنا ما وجدنا ريحاً منذ دخلنا الجنة أطيب من هذه الريح فيقال: هذه رائحة أفواه الصوام وقد تفوح رائحة الصيام في الدنيا وتستنشق قبل الآخرة. وهو نوعان: أحدهما: ما يدرك بالحواس الظاهرة، كان عبد الله بن غالب من العباد المجتهدين في الصلاة والصيام فلما دفن كان يفوح من تراب قبره رائحة المسك فرؤي في المنام فسئل عن تلك الرائحة التي توجد من قبره فقال: تلك رائحة التلاوة والظمإ).

والنوع الثاني: ما تستنشقه الأرواح والقلوب فيوجب ذلك للصائمين المخلصين المودة والمحبة في قلوب المؤمنين. وحديث الحارث الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم: “أن زكريا عليه السلام قال لبني إسرائيل: آمركم بالصيام، فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك فكلهم تعجبه ريحه، وأن ريح الصيام أطيب عند الله من ريح المسك” 3. لما كان أمر المخلصين بصيامهم لمولاهم سراً بينه وبينهم أظهر الله سرهم لعباده فصار علانية فصار هذا التجلي والإظهار جزاء لذلك الصون والإسرار، في الحديث: “ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية” قال يوسف بن إسباط: أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء قل لقومك يخفون لي أعمالهم وعلي إظهارها لهم.

تذلل أرباب الهوى في الهوى عز ** وفقرهم نحو الحبيـب هو الكنز

وسترهم فيه الســرائر شهـرة ** وغير تلاف النفس فيه هو العجز

والمعنى الثاني: أن من عبد الله وأطاعه وطلب رضاه في الدنيا بعمل فنشأ من عمله آثار مكروهة للنفوس في الدنيا فإن تلك الآثار غير مكروهة عند الله بل هي محبوبة له وطيبة عنده لكونها نشأت عن طاعته واتباع مرضاته فإخباره بذلك للعاملين في الدنيا فيه تطبيب لقلوبهم لئلا يكره منهم ما وجد في الدنيا. قال بعض السلف: وعد الله موسى ثلاثين ليلة أن يكلمه على رأسها فصام ثلاثين يوماً، ثم وجد من فيه خلوفاً فكره أن يناجي ربه على تلك الحال، فأخذ سواكاً فاستاك به، فلما أتى لموعد الله إياه قال له: يا موسى أما علمت إن خلوف فم الصائم أطيب عندنا من ريح المسك، ارجع فصم عشرة أخرى. ولهذا المعنى كان دم الشهيد ريحه يوم القيامة كريح المسك وغبار المجاهدين في سبيل الله ذريرة أهل الجنة. ورد في حديث مرسل: “كل شيء ناقص في عرف الناس في الدنيا حتى إذا انتسب إلى طاعته ورضاه فهو الكامل في الحقيقة. خلوف أفواه الصائمين له أطيب من ريح المسك”. عري المحرمين لزيارة بيته أجمل من لباس الحلل. نوح المذنبين على أنفسهم من خشيته أفضل من التسبيح، انكسار المخبتين لعظمته هو الجبر، ذل الخائفين من سطوته هو العز، تهتك المحبين في محبته أحسن من الستر، بذل النفوس للقتل في سبيله هو الحياة، جوع الصائمين لأجله هو الشبع، عطشهم في طلب مرضاته هو الري، نصب المجتهدين في خدمته هو الراحة.

ذل الفتى في الحب مكرمة ** وخضوعه لحبيبه شرف

هبت اليوم على القلوب نفحة من نفحات نسيم القرب سعى سمسار المواعظ للمهجورين في الصلح، وصلت البشارة للمنقطعين بالوصل، وللمذنبين بالعفو، والمستوجبين النار بالعتق.

لما سلسل الشيطان في شهر رمضان، وخمدت نيران الشهوات بالصيام انعزل سلطان الهوى وصارت الدولة لحاكم العقل بالعدل، فلم يبق للعاصي عذر. يا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي، يا شموس التقوى والإيمان اطلعي، يا صحائف أعمال الصائمين ارتفعي، يا قلوب الصائمين اخشعي، يا أقدام المتهجدين اسجدي لربك واركعي، يا عيون المجتهدين لا تهجعي، يا ذنوب التائبين لا ترجعي، يا أرض الهوى ابلعي ماءك ويا سماء النفوس أقلعي، يا بروق العشاق للعشاق المعي، يا خواطر العارفين ارتعي، يا همم المحبين بغير الله لا تقنعي، يا جنيد اطرب، يا شبلي احضر، يا رابعة اسمعي، قد مدت في هذه الأيام موائد الإنعام للصوام فما منكم إلا من دعي: يا قومنا أجيبوا داعي الله ويا همم المؤمنين أسرعي، فطوبى لمن أجاب فأصاب، وويل لمن طرد عن الباب وما دعي.

ليت شعري إن جئتهم يقبلوني ** أم تراهم عن بابهم يصرفوني

أم تراني إذا وقفت لديـــهم ** يأذنوا بالدخول أم يطردوني

“وظائف شهر رمضان المعظم”، من كتاب: لطائف المعارف لابن رجب.


[1] خرجه الإمام أحمد.
[2] خرجه الطبراني وغيره.
[3] خرجه الترمذي وغيره.