فتاة من القرية

Cover Image for فتاة من القرية
نشر بتاريخ

لم تكن حليمة وارحيمو سوى صديقتين كبرتا في نفس المدشر، جرتا في سفوح الجبال، وشقت نسمات الهواء البارد شفاههن وجلد أياديهن الرقيق..

طفلتان تنتعلان حذاء بلاستيكيا، يخفف عن قدميهما وعثاء طريق شائك وصعب، يحمي تَيْنَيْكَ الرجلين من زمهرير قارس ولهيب لافح..

حولت الشمس بشرتهما الضاربة في البياض إلى وجه محتقن، متوهج بأنفاس الصبح وهو يشرق عليهما كل يوم..

وأنبتت على جدائل شعرهما، سنابل صفراء مشرقة، متحدية “الشاشية” التي تحمي رأسيهما من حر النهار..

التحقت البنتان بالمدرسة الابتدائية المتواجدة بأطراف القرية، وهما بهمة متقدة، وعزيمة قوية..

لم تعبآ بشظف العيش، ولا بعد الشقة أو وُعورَة الطريق..

اختلفت حياة حليمة عن حياة صديقتها ورفيقة دربها ارحيمو.. فالأولى كانت ابنة أحد أعيان القرية وأغنيائها، فلم تكن مضطرة إلى رعي الأغنام، وجلب الماء، وتنظيف الحظيرة، فقد كان البيت يعج بالمساعدين والمساعدات.. وكانت أعمالها تقتصر على ترتيب المنزل، وعجن الخبز، وبذل العون في الاعتناء بإخوتها الصغار والاهتمام بهم..

بينما كانت ارحيمو ترعى الماشية، وتعتني بالدجاج، وتجني الثمار، وكل ما يسع يديها الصغيرتين القيام به..

ورغم كل هذه المهمات والأعباء التي تكبدتها كفتاة قروية، فقد تمكنت من مجاراة صديقتها في التحصيل الدراسي.. بل وأحيانا كثيرة تتفوق عليها، نظرا لحسن بديهتها وقوة عزيمتها.

انتهت المرحلة الابتدائية بمساوئها ومحاسنها.. بحلوها ومرها.. لتبدأ الفتاتان رحلة أخرى، أكثر عناء ومشقة، فتلتحقا بالمدرسة الإعدادية المتواجدة في مدشر آخر، والنائية عن مسكنهما بأميال..

قضت الفتاتان هذه المرحلة بكل صعوباتها، متحملتان طول الطريق وخطورته، والغياب المتكرر للأساتذة، دون تعويض يذكر.. في غياب تام لوسائل النقل المدرسي وندرة العمومي..

كن أربع فتيات من نفس المدشر تابعن دراستهن بالمرحلة الإعدادية.. لتتوقف جميعهن عن متابعة الدراسة، بعد أن تعذر عليهن استكمال التعليم الثانوي لتواجد المؤسسة في المدينة، والتي لا تتوفر على أقسام داخلية، ومعارضة الأهل انتقالهن للمدن وحدهن، بسبب حداثة سنهن وخوفا عليهن..

ما عدا حليمة، فقد التحقت بالمنزل الذي اشتراه والدها في المدينة، حتى يتمكن أولاده من متابعة دراستهم.

لا يمكن وصف كمية الحزن والإحباط الذي شعرت به ارحيمو وبقية صديقاتها جراء انقطاعهن عن الدراسة.. وهن اللواتي حلمن بتحصيل علمي وشهادات عليا، ومستقبل أفضل ينتشلهن من الأمية والجهل.

أقبلن باكرا على الزواج وتكوين أسرة وإنجاب أبناء وبنات، ماضيات على خطى أمهاتهن اللواتي لم يرثن منهن سوى الحسرة والندامة والكثير من العمل الشاق.

رَمَيْنَ كراسات الدرس، والمحافظ المثقلة بالأوراق، ليكتفين بما حصلن عليه من إعدادية القرية.

أصبحت حليمة الآن طبيبة أخصائية في أمراض النساء والولادة، بعد أن أكملت دراستها..

ترى نفسها محظوظة لأنها أكملت تعليمها بفضل ظروفها المادية الجيدة، والتي مكنتها من مواصلة دراستها، على عكس رفيقة طفولتها ارحيمو التي ودعت شغفها وحبها للدراسة كغيرها من فتيات القرية.

وبالرغم من مرور السنين، تتكرر نفس المعاناة، ويعيد التاريخ نفسه، ويواجه أبناء ارحيمو المصير ذاته..

غير أنها هذه المرة اتخذت قرارا ممضا، صعبا، فقد قررت الأسرة أن تنقسم إلى قسمين، فتكتري ارحيمو وأبناءها الكبار غرفة في المدينة أيام الدراسة، بينما يبقى بقية الأبناء رفقة والدهم في القرية..

قرار كان مُلِحًّا وصعبا اتخاذه، إذ ستتكبد الأسرة خسائر مادية ومعنوية جسيمة سترهق كاهلها..

انقسام وانشطار كان لابد منه لكي ينعم الأبناء بالتعليم، في غياب تام للمؤسسات التعليمية بالمداشر البعيدة، وقلة، بل انعدام وسائل النقل بالقرى النائية..

فإلى متى سيظل أبناء ساكنة البوادي يعانون من التهميش والحق في التمدرس، في غياب أصوات تدافع عن حقهم في ذلك، وتشجب حرمانهم من التعليم؟

#_التعليم_حق_للفتاة_القروية