لعل من القضايا المصيرية في حياة الإنسان، مسألة القدوة أو النموذج، ذلك أن الإنسان مجبول بالفطرة على الاقتداء، وقد يوفق في العثور على مثله الأسمى، وقد لا يحالفه الحظ في ذلك.
و”المرء على دين خليله” كما جاء في الحديث الشريف، من أجل ذلك بعث الله سبحانه وتعالى الأنبياء والرسل عليهم السلام، وجعلهم منارات للهدى ونماذج سامية للكمال، وتوجهم بأكمل الخلق سيدنا محمد عليه وعلى رسل الله أفضل الصلاة والسلام. فكانت شريعته ناسخة لشرائعهم، شاملة لفضائلها ولكل خير وهدى جاء في رسالاتهم. صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
سار قوم على مدرجة الأنبياء والرسل، فنالوا بغيتهم وفازوا برضا ربهم، منهم رجال ونساء، جاء في الحديث الذي رواه الطبراني رحمه الله: “كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية زوجة فرعون، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد”.
إلى الكاملة بنت الكاملة
إنها الزهراء؛ البضعة النبوية الشريفة، التي حملت المشعل بعد والدتها التي ورثت الكمال لأجيال الإسلام، فحضنت الرسالة والرسول، رعاية وحنوا، بل ودفاعا حين اشتد الأذى، حتى عُرفت بأم أبيها، معطية بذلك معنى أعمق وأشمل لمفهوم الأمومة.
فضل الزهراء
أخرج الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “هذا ملك نزل من السماء لم ينزل الأرض قط قبل هذه الليلة. استأذن ربه أن يسلم علي ويبشرني أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، وأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة”.
حسب الزهراء فضلا على نساء العالمين أن يكون أبوها هو محمد بن عبد الله، خير من أقلت الغبراء وأظلت السماء، من عرف منذ صغره بكل خصال الخير حتى لقبه قومه بالأمين، وأن تكون أمها سيدة النساء، الشريفة الطاهرة ذات اليد البيضاء على رسالة الإسلام وعلى المسلمين. وليهنها حب النبي الكبير الذي يخصها به دون سائر أهل بيته حيث يقول: “فاطمة بضعة مني- أي قطعة مني – فمن أغضبها أغضبني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها” [أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي].
وها هي الأسرة الصغيرة، المكونة من البضعة النبوية وزوجها وابنيها، هي أهل النبي وخاصته. روى الترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل على الحسن والحسين وعلي وفاطمة رداء وقال: “اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا”.
أخبرتنا أعلم النساء عائشة رضي الله عنها أنها ما رأت أحدا أشبه سمتًا وَهديًا ودلًّا برسول الله صلى الله عليه وسلم في قيامه وقعوده من فاطمة بنت رسول الله. تشير إلى ما يرى على الزهراء من السكينة والوقار والتواضع وحسن الخلق ولطف الحديث… ذاك فضلا عن شبه الخلقة، فكانت إذا أقبلت لا تخطئ مشيتها من مشية رسول الله شيئا.
كيف قابلت الزهراء فضل ربها عليها
ميراث وتربية ومنبت حسن، حظيت الزهراء منه بما لم تحظ به امرأة غيرها. وكأني بسائلة تسأل: وكيف لا تبلغ بنت رسول الله ما بلغت وقد خصها الله تعالى بكل هذا الفضل؟ وأنى لامرأة، لم يتوفر لها ما توفر للزهراء، أن تتطاول إلى مقام الكاملات؟ ويجيبها نموذج آسية زوجة فرعون، ذلك لتعرف كل امرأة أن الأمر ما هو تواكل ولا دعة، بل عمل متواصل، واجتهاد، وإرادة قوية وطرق متواصل لباب المنعم المتفضل. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله في كتاب تنوير المومنات: “كذلك المومنة، عاشت في كنف صالحين، في زمن صالح، أو نشأت في عصر سادت دنياه حضارة مجرمة، لا يرفعها ولا يحطها إلا عملها” [الجزء الثاني، ص: 289].
وما فاطمة بالتي تتكل على حب النبي صلى الله عليه وسلم لها وقرابتها منه، بل إن هذا الاصطفاء الإلهي لم يزدها إلا تقديرا لعظم الأمانة وإصرارا على أداء واجب الشكر. فكانت حياتها مليئة بالعبر والدروس لكل طالبة وجه ربها.
عروس لا ككل العرائس
قال ابن عباس رضي الله عنه: لما تزوج علي فاطمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أعطها شيئا” قال: ما عندي شيء. قال عليه الصلاة والسلام: “أين درعك الحطمية؟” [حديث صحيح أخرجه أبو داود والنسائي وابن سعد في طبقاته والبيهقي في سننه الكبرى]. وكان ثمنها أربعمائة درهم.
ذاك هو صداق بنت رسول الله. ما كانت لتستبدل الدين والخلق والمروءة والشجاعة في الحق، بالدرهم والدينار. فتاة لها قضية تعيش من أجلها؛ لا تنظر إلى ظواهر الأمور بل إلى جواهرها، فما مثل علي يرد ولو كان فقيرا، حب رسول الله، وابن عمه، وفارس الإسلام الذي لا يثنيه شيء عن إعلاء كلمة الله. فهو إذن رفيق درب الجهاد، الذي لا يستبدل بكنوز الدنيا كلها.
وكان جهازها خميلة ووسادة من أدم حشوها ليف، ورحى وسقاء وجرتين، يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه: “حَضَرْنا عُرْسَ عليٍّ وفاطمةَ، فما رأينا عُرْسًا كان أحسنَ منه، حشوْنا الفراشَ – يعني الليفَ – وأُتِينا بتمرٍ وزبيبٍ فأكَلْنا، وكان فراشُها ليلةَ عُرْسِها إهابُ كبشٍ”.
خدمة البيت من عمل الكاملات
يسر وحسن اختيار، مدعاة لإقامة حياة زوجية ملؤها الحب والمودة والتفاهم على ترتيب الأولويات بما يتناسب مع القضية المشتركة. ولم تكن أولويات علي وفاطمة عليهما السلام سوى طلب وجه الله الكريم في كل شيء، تقاسما أعباء الحياة؛ فكان هو يشقى ويتعب خارج البيت، وكانت هي مشمرة داخله. كنست حتى اغبرت ثيابها، وسقت بالقربة حتى أثرت في نحرها الشريف، وطحنت بالرحى حتى مجلت اليدان [أصابتها المجلة، وهي قشرة رقيقة يجتمع فيها ماء من كثرة العمل اليدوي]. حتى إذا أفاء الله على نبيه وجاءته بعض الغنائم، تشاور الزوجان المتعبان أن يأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم كي يزودهما بخادم يخف عنهما بعض التعب، لكن هيهات، ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليؤثر ابنته بعطاء، وهناك من فقراء المسلمين من هو أحق به. يريد لأهل بيته وخاصته خيرا من العطاء المادي. لذلك علمهما تسبيحات يقولانها دبر كل صلاة، وعندما يأويان إلى فراشهما، فتلقفاها ولم يتركاها مدى الحياة.
ويطعمون الطعام
روى السيوطي في تفسيره: (الدر المنثور) قال: أخرج ابن مِردويه، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ويطعمون الطعام على حبه مسكينا (الإنسان، 8)، قال نزلت في علي ابن أبي طالب عليه السلام وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لإيثارهما المسكين واليتيم والأسير بالطعام رغم الحاجة الشديدة إليه – كانوا صياما – فواصلا الصيام ثلاثة أيام بلياليها، ولم يفطرا إلا بالماء. فنزل جبريل مبشرا رسول الله في أهل بيته، بقوله تعالى: فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا، وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا (الإنسان، 11).
عليك السلام يا سيدة نساء المؤمنين، يا بضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا من جمعت إلى فضل الانتساب الطيني إلى خير الورى، فضل الاتباع والاهتداء بسنته، حتى اصطفاك رب العالمين وجعلك قدوة لكل النساء إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
عليكم السلام آل بيت رسول الله أجمعين، يا من قال فيكم ربنا عز وجل: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا (الأحزاب، 33).
اللهم طهرنا كما طهرت آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذهب عنا الرجس كما أذهبته عنهم. آمين.
ولم يبق لطالب الكمال ومريد القرب من ذي الجلال عز وعلا إلا أن ينهل من معين النبوة الصافي، فيكون كماله بقدر ما أخذ من ذلك المنبع الفياض، والناس همم ومعادن، وكل وآنيته.