“فَإِنِّي قَرِيبٌ”

Cover Image for “فَإِنِّي قَرِيبٌ”
نشر بتاريخ

كم من المسافات يمكن قياسها بين العبد وربه ليختَصر السير إلى الله. في ميزان الروح لا تقاس الأبعاد بالأمتار.

شيء ما في داخلك يشعرك بأن الله أقرب إليك من حبل الوريد، شيء ما في داخلك يشعرك بأنك تُصنع على عينه، فتهدأ سكرات أوجاعك القاتلة لتعيد ترتيب حياتك.

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ (سورة البقرة، الآية 186).

القرب من الله بدعاء ترفعه في لحظة حضور، لتجد نفسك وقد دخلت من أوسع أبواب القرب. تناجيه فتتجلى عليك نفحات وصاله… كأنما هي السماء تنفتح لاستقبال وفد الرحمن وهم يئنون من الشوق.. شوقهم يطوي عنهم كل بعد. القرب سجود الروح في محراب الحب.

القرب من الله.. ليس تحليقا فقط في كبار المعاني وسباحة في عالم الجمال.

القرب من الله في قضاء حوائج الناس، وكشف الضر عن كل ذي وجع.. لا تنتظر البوح؛ فماء الوجه ثمنه حياة قلب تقلب بين مطارق الدنيا لكنه يستحي أن يشكو حاله لغير خالقه.

رائعون أولئك المتدثرون بستار الخفاء يتعففون أن يشار إليهم بالبنان.. رائعون وهم يدمنون طرق باب مولاهم يتذللون له ويقسمون عليه أن يغمرهم بواسع كرمه. لهؤلاء تتعبد طريق القرب.

القرب بر بالوالدين، وتقديم راحتك قربانا لرضاهما المقترن برضا الله، خدمتهما بالكلمة الطيبة والدرهم الحلال وقضاء حوائجهما من غير سؤال… ويحك.. ألا تشعر بحرج أبيك وهو يشتهي كمالا لا تسعفه فيه ذات اليد… وأمك التي برقت عينها لحظة من لحظات التأمل ترجو من الله ما لا أذنك سمعت ولا عينك رأت ولا خطر يوما على قلبك… والداك مفتاح القرب عندما يتمتمان لك بالدعاء وأنت في عز غفلتك عنهم… يشعران بالضعف لكنهما يخبئانه.. يشعران بالوحدة لكنهما لا يبوحان، يرغبان في إكرام الفقراء لكنك تضن بمالك وتبخل بما يحقق لهما كرامة الكينونة في استقلال عنك؛ أنت ومالك لأبيك.

القرب عيادة مريض دون إطالة، تخفف عنه وتنصرف غير منتظر أكل ما لذ وطاب من الطعام كأنما زيارة المريض صارت فرحة أكل وليست مواساة مكلوم. 

القرب أن تحن على يتيم أحرجه يتمه أن يبكي أمام أقرانه وهم يمرحون ويلعبون بملء سعادتهم.

القرب زوج يلتقط أفكار زوجته دونما إفصاح فيسد عنها منافذ المتربصين بالكلمة الطيبة، ويخفض لها جناح قلبه متفهما غيرتها ومطمئنا حياتها أنه لن يكون لها يوما عنوانا من عناوين الغدر.

القرب أن تحب الخير لغيرك كما تحبه لنفسك وتدله على الله حتى لا يعيش التيه في عالم التيه.

القرب جبر خاطر في جوف المعاناة ورُسُوٌّ به في ساحل النجاة.

القرب إغاثة ملهوف انكسر جناحاه وانكسرت معهما عزيمته فبات يقلب وجهه في السماء. 

القرب ألا يشغلك عن الله شاغل فتكون له بكليتك؛ تناجيه بمسح دموع الثكالى والاستماع لبوح الصامتين في أرض الابتلاء.

القرب بقدر ما هو استغراق في ذكر الله، وجلوس لقراءة القرآن وتدبر في أسرار آياته، هو كذلك ورد من حسن ظن بخلق الله، ومصافاة تعِدُّ في قلبك موضع تتويج ومحط تجليات.

القرب استدراك ما فات في زمن الهدم؛ توبة وعزمة وتصحيحا للمسار.