غزوة بدر.. نصر وفتح مبين

Cover Image for غزوة بدر.. نصر وفتح مبين
نشر بتاريخ

في مثل هذه الأيام من شهر رمضان المبارك من العام الثاني للهجرة النبوية، وقعت غزوة بدر الكبرى، بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لمحاربة قريش، والتقى الجمعان في بدر في السابع عشر من رمضان، وكانت أول مواجهة بين المسلمين وبين المشركين، رغم قلة عدد المسلمين، وكثرة عدد المشركين.

هذه الغزوة التي سطر فيها المسلمون أروع انتصاراتهم، وتحول فيها الإسلام من هوان إلى قوة تبوأ معها مكانة عظيمة، ذكر اسمها في القرآن الكريم، ونزلت الملائكة على الجبال التي تحيط ببدر من كل اتجاه.

وكانت غزوة بدر بداية لتأصيل الجهاد والقتال ومواجهة أعداء الإسلام في نفوس المسلمين، وكانت بداية لأول موكب من مواكب الشهداء، حيث استشهد في هذه المعركة أربعة عشر رجلا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار. فكانت أول معركة بين الإسلام والجاهلية، بين جند الله وجند الطاغوت. معركة تحمل في طياتها معاني أكبر من محدودية حجمها وعدد المشاركين فيها؛ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا من المسلمين، يقابلهم ما بين التسعمئة وألف من المشركين. دارت في زمن لم يتعدى اليوم الواحد، وعلى الرغم من ذلك تعتبر من المعارك الحاسمة في التاريخ، ومن أعظمها، لم تستمر أربعين سنة مثل حرب البسوس، ولم يقتل فيها الآلاف، استشهد فيها في سبيل الله أربعة عشر من المسلمين، وقتل من المشركين سبعون من صناديد قريش، وأسر منهم سبعون. هذا من الناحية العددية، أما من الناحية الكمية فبدر تعتبر معركة بسيطة ولكنها اكتسبت أهميتها من ناحية الهدف؛ إذ كانت أول معركة يخوضها المؤمنون في سبيل الله، وأول مواجهة بين جند الحق وجند الباطل، ولذلك سمى القرآن يومها بيوم الفرقان وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ (الأنفال، 41).

يوم الفرقان هو اليوم الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل، بنصر الحق على الباطل، ونصر الإيمان على الكفر، فمن أجل هذا كان لهذه المعركة أهميتها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند المسلمين، حيث ظلوا يفخرون بها وبكل من شارك فيها، وينعتونه بالبدري مباهاة واعتزازا.

لقد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر دروسا وعبرا لا تعد ولا تحصى، نعرض في مقالنا هذا لعنصر الاستشارة.

الاستشارة قبل الحرب

حرص عليه الصلاة والسلام على معرفة رأي كل من المهاجرين والأنصار، ومدى إقبالهم ورغبتهم في خوض الحرب مع المشركين، ولم يشأ أن يفرض عليهم رأيه، وفي ذلك تشير كتب السير إلى أنه صلى الله عليه وسلم توجه إليهم بقوله: “أشيروا علي أيها الناس”، فقام عمر فتكلم فأحسن، ثم تكلم أبو بكر، ثم المقداد بن الأسود فقال: يا رسول الله والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى “اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون بل نقول لك اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون”. وظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرر قوله طالبا رأي البقية، حتى قام معاذ بن جبل وهو يمثل الأنصار وقال: يا رسول الله كأنك تريدنا، والله يا رسول الله لقد آمنا بك وصدقناك، وأيقنا أنما جئت به هو الحق، والله لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه وراءك، ما تخلف منا رجل واحد، وإنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، سالم بنا من شئت، وحارب بنا من شئت لعل الله يريك منا ما تقر به عينك” (أورده الإمام الذهبي في مغازيه، تحقيق عمر، ص 103).

فانشرح صدر النبي واستنار وجهه صلى الله عليه وسلم وقال: (سيروا على بركة الله فقد وعدني الله إحدى الطائفتين؛ إما العير أو النفير) (المسند بإسناده الصحيح، رقم 3698).

لم يدخل صلى الله عليه وسلم المعركة إلا بعد أن أخذ إذن القوم وعرف رأيهم بصراحة.

الاستشارة أثناء المعركة

جاء الحباب بن المنذر الأنصاري وقال: يَا رَسُولَ اللّهِ! أَرَأَيْت هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلاً أَنْزَلَكَهُ اللّهُ، لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدّمَهُ ولا نَتَأَخّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ: ”بَلْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ” .. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ فَإِنّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلِ، فَانْهَضْ بِالنّاسِ حَتّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ، فَنَنْزِلَهُ ثُمّ نُغَوّرَ مَا وَرَاءَهُ مِنْ الْقُلُبِ، ثُمّ نَبْنِيَ عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَؤُهُ مَاءً، ثُمّ نُقَاتِلَ الْقَوْمَ، فَنَشْرَبَ وَلَا يَشْرَبُونَ.. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ – صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ – مشجعًا –: ”لَقَدْ أَشَرْت بِالرّأْيِ”.
فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم متعصبا لرأيه، بل كان يطلب الاستشارة ويعمل بها متى ظهرت له صحتها، وينزل عند آراء أصحابه رضي الله عنهم.

الاستشارة بعد المعركة

نلمح طيب فعله ذاك صلى الله عليه وسلم أيضا عندما استشار في قضية الأسرى، إذ أشار عليه بعض الصحابة بقتلهم، وبعضهم فضل الافتداء بهدف الهداية إلى الإسلام، وكان هذا رأي سيدنا عمر وأبي بكر رضي الله عنهما.

من نتائج المعركة

تمخضت عن هذه الغزوة نتائج عدة نذكر منها:

المكانة المائزة للمسلمين: إذ أصبحت لهم بعد انتصارهم في هذه الغزوة مكانة مهمة في المدينة وما جاورها، وسمعت جميع قبائل العرب بالرسالة الجديدة، وأصبح لدولة المسلمين مصدر جديد للدخل من خلال غنائم المعارك، وتحسن حالهم المادي والاقتصادي، مقابل اهتزاز قريش في أعماقها بنكبتها في صناديدها وأعمدة عصبيتها.

فرح المسلمون بنتائج هذه المعركة فرحا عظيما، وازدادوا إيمانا بما هم عليه من الحق والهدى، وازدادوا يقينا بأن الله سبحانه وتعالى ناصر من يجاهد فيه مهما كثر العدو وتكالبت الظروف.

علمتنا هذه المعركة أيضا أن الله سبحانه وتعالى يؤتي المسلمين نصره حين يحققون الإسلام في أنفسهم عقيدة وسلوكا.

وخلاصة القول؛ معركة بدر كانت معركة تاريخية فاصلة، ليس في تاريخ الإسلام فحسب، بل في تاريخ العالم لما كان لها من الأثر البليغ، إذ علت بعدها راية الإسلام وانتشرت، ورسمت ملامح أساسه؛ انتصار الإيمان واليقين في الله قبل انتصار السيوف.