غزوة بدر.. درس متجدد

Cover Image for غزوة بدر.. درس متجدد
نشر بتاريخ

ظلت غزوة بدر الكبرى بأحداثها ووقائعها درسا حيا بأهدافه ومعانيه، ليس فقط على مستوى المنظومة العسكرية والسياسية، وإنما – بل وقبلهما – على مستوى المنظومة التربوية. كيف لا وهي التي أنزل الله عز وجل فيها قرآنا خالدا إلى أن تقوم الساعة.

إن المتأمل للمعاني التربوية المستخلصة من هذه الغزوة، يدرك تمام الإدراك أن أمر الجهاد لا ينفك عن أمر التربية، وأن بناء الأمة رهين ببناء الفرد، وأن مبتدأ النصر محله القلب.

فما هي بعض من المعاني التربوية لغزوة بدر الكبرى؟

1- من نصر الله في قلبه نصره الله على أرضه

 تعتبر الثلاث عشرة سنة التي عاشها النبي صلى الله عليه وسلم في مكة قبل هجرته إلى المدينة مرحلة إعداد تربوي، “دامت التربية الجهاد الأكبر ثلاث عشرة سنة في مكة. وصحب الجهاد الأكبر الجهاد الأصغر طيلة العشر الباقيات” 1،  فقد اهتم عليه الصلاة والسلام،  إلى جانب نشر الدعوة، بتربية جيل من الرجال والنساء على تهذيب النفس والتخلص من عاداتها الجاهلية، وبنى قلوبا تعلقت بالله عز وجل حبا، وخلصتها له عقيدة، فكانت هجرتهم إلى المدينة برهان صدق إيمانهم، وصلاح أحوالهم. حتى إذا جاءت غزوة بدر وجدتها مهيأة قبل أبدانهم؛ وقد تخلصت من كل شرك ومن كل وثن،  فقد نصروا الله في قلوبهم، وأعلوا فيها كلمة لا إله إلا الله بمعانيها وشروطها قبل أن يجهروا بها بأصواتهم، وبرهنوا على صدق طلبهم، حتى إذا جاء أمر الله بالجهاد، ونزلوا أرض المعركة أيدهم الله بنصره. قال عزوجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (محمد، 7).

 2- الجهاد ثمرة التربية وأولى واجهاتها

أكدت لنا دروس بدر أن التربية ليست انزواء ولا ركونا عن الجهاد؛ بل هي عملية تسبق مرحلة الجهاد وتصاحبه، وتتبعه، بل هو ثمرة من ثمارها. والتربية المقصودة؛ هي تربية قرآنية إيمانية، تنهض الهمم لاقتحام العقبة، وتربي على القيم الإيمانية الإحسانية لبناء الشخصية الجهادية، “نعني تربية الإيمان بمفهومه اقتحاما للعقبة وبكل شعبه. التربية أولا ووسطا وآخِرا، ولا آخَر، ودائما” 2.

هي التربية التي ربى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على الإيمان بالغيب وتصديقه، وغرس فيهم معاني الإرادة الاستشهادية.

 وكل خلل في الجهاد هو خلل في التربية.

لم تكن التربية النبوية لأصحابه – رجالا ونساء – منعزلة عن الجهاد؛ فقد كانت تربية متوازنة؛ جمعت بين هم الفرد لنيل رضى الله والتنافس في الخيرات، وبين هم الجهاد وبناء الأمة.

لم يتوان سيدنا سعد بن معاذ عندما استشارهم النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة الخروج للغزوة، من أن يرد بكل يقين: “قد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد” 3

هذه هي التربية التي نهضت بالرجال كما النساء ليطلبوا الشهادة، فقد ورد عن الْوَلِيد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُمَيْعٍ قَالَ: “حَدَّثَتْنِى جَدَّتِى وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَلاَّدٍ الأَنْصَارِىُّ عَنْ أُمِّ وَرَقَةَ بِنْتِ نَوْفَلٍ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا غَزَا بَدْرًا، قَالَتْ: قُلْتُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِى فِى الْغَزْوِ مَعَكَ، أُمَرِّضُ مَرْضَاكُمْ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِى شَهَادَةً. قَالَ: قِرِّى فِى بَيْتِكِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرْزُقُكِ الشَّهَادَةَ” 4

بتلك التربية وبفضل من الله وتأييده، حققوا أول انتصار أسفر عن ميلاد خير أمة أخرجت للناس.

3- نصر الله أخذ بالأسباب

على الرغم من يقين النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام بنصر الله وتأييده لهم، وقد أنزل عز وجل في ذلك قوله: 5وَإِن یُرِیدُوۤا۟ أَن یَخۡدَعُوكَ فَإِنَّ حَسۡبَكَ ٱللَّهُۚ هُوَ ٱلَّذِیۤ أَیَّدَكَ بِنَصۡرِهِۦ وَبِٱلۡمُؤۡمِنِینَ (الأنفال، 62)، إلا أنه عليه الصلاة والسلام أخذ  بالوسائل، وتهيأ أيما تهيؤ، وأحسن التخطيط والتدبير، ودعا الله واستشار أصحابه، وشحذ الهمم والعزائم، ليجري سنة الله في الأرض، ويجمع بين الأسباب الغيبية والأسباب الدنيوية، يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى في هذا الباب: “سنة الله أن ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة. إن آمنوا وعملوا الصالحات، لا إن أخلوا بالشرط الجهادي حالمين بالمدد الإلهي الخارق للعادة، وهو مدد لا يتنـزل على القاعدين بل يخص به الله من قام وشمر وتعب في بذل الجهد، وأعطى الأسباب حقها، وأعد القوة وبذل المال والنفس وحزب جند الله وجيشهم وسلحهم وتربص بالعدو وخادعه وماكره وغالبه. احترام نواميس الله في الكون وسنته في التاريخ مع صعود النيات إلى الملك الحق مفاتيح لأبواب السماء، بها مع الصلاة والدعاء تتنـزل السكينة وتغشى الرحمة وتَهب رياح النصر برفرفة أجنحة الملائكة… بين طرفي إلغاء الأسباب وإلغاء الغيب من الحساب يقع صواب الإيمان بقدرة الله تعالى المطلقة والاحترام المشروط على المؤمنين لسنته في الكون والتاريخ”عبد السلام ياسين، سنة الله،  مطبعة الخليج العربي، تطوان، ط/2، 2005،  ص9..

ختاما

بذلك ظلت غزوة بدر الكبرى الدرس الجامع بين معنى التربية ومعنى الجهاد، تجَسد سلوكا، وتَرسّخ يقينا في تاريخ الأمة الإسلامية.


[1] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي: تربية وتنظيما وزحفا، الشركة العربية الإفريقية للنشر والتوزيع، ط/ 2، 1989، ص400.
[2] م ن، ص 409.
[3] مصطفى السباعي، السيرة النبوية دروس وعظات، المكتب الإسلامي، بيروت، ط/2، 1985، ص80.
[4] سنن أبي داود/ج1/ ص162.