غزة وشعب أبي طالب.. حكايات صمود لا تنتهي

Cover Image for غزة وشعب أبي طالب.. حكايات صمود لا تنتهي
نشر بتاريخ

أوجه التشابه بين حصار شعب أبي طالب وتجويع غزة صدى التاريخ

يمتلئ التاريخ البشري بالعديد من الأحداث التي تتشابه في جوهرها، وإن اختلفت في تفاصيلها الزمانية والمكانية، ولعل المتأمل في أحداث غزة وما يقع فيها من ظلم وجور وتجويع وتقتيل… يتذكر ما درسناه في السيرة النبوية العطرة من واقعة حصار المسلمين في شعب أبي طالب وكأن التاريخ يعيد نفسه، ومن بين هذه الأحداث تبرز مقارنة مؤلمة بين ما تعرض له المسلمون الأوائل ـ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ في شعب أبي طالب من حصار وتجويع في صدر الإسلام، وما يعانيه سكان قطاع غزة اليوم من اضطهاد وحصار وتجويع ممنهج، على الرغم من الفارق الزمني الذي يقارب أربعة عشر قرنا، والاختلاف في السياقات السياسية والاجتماعية، إلا أن القواسم المشتركة بين هاتين المأساتين الإنسانيتين تكشف عن طبيعة الظلم البشري المتكرر، وتؤكد على أن أساليب الاضطهاد قد تتغير، لكن جوهرها يبقى واحدا هو محاولة كسر إرادة الشعوب وتجريدها من حقوقها الأساسية.

يهدف هذا الموضوع إلى تسليط الضوء على أوجه التشابه العميقة بين هاتين التجربتين المريرتين، من خلال تحليل الأسباب، والآثار، وطرق الصمود التي أظهرها الضحايا في كلتا الحالتين.

إن فهم هذه المقارنة لا يقتصر على مجرد استعراض تاريخي، بل يمتد ليشمل استخلاص الدروس والعبر، وتأكيد أهمية الصمود في وجه الظلم والظالم، وضرورة تظافر الجهود الإنسانية لوقف المعاناة في أي مكان وزمان.

شعب أبي طالب حيث الجوع يروي قصة الإيمان

في قلب مكة، وقبل بزوغ فجر الإسلام بالكامل، شهد التاريخ الإسلامي حادثة عصيبة تُعرف بمقاطعة شعب أبي طالب. كانت هذه المقاطعة حصارا اقتصاديا واجتماعيا فرضته قريش على بني هاشم وبني عبد المطلب، بمن فيهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بهدف إجبارهم على التخلي عن الدعوة الإسلامية.

استمر هذا الحصار لثلاث سنوات قاسية، بدأت في السنة السابعة من النبوة، وشهدت أقصى درجات التجويع والاضطهاد، حرب على الروح والإرادة، وضغط نفسي هائل.

مؤامرة الصحيفة.. جوع ومقاطعة

كانت قريش قد أجمعت أمرها على كتابة صحيفة ظالمة، علقتها في جوف الكعبة، نصت على مقاطعة شاملة لبني هاشم وبني المطلب. تضمنت هذه الصحيفة بنودا قاسية منعت أي تعامل معهم، سواء بالبيع أو الشراء، أو الزواج، أو حتى الجلوس والمخالطة. كان الهدف واضحا، هو عزل المسلمين وأتباعهم وتجويعهم حتى يرضخوا لمطالب قريش ويتخلوا عن دينهم. 1

لقد بلغت قسوة الحصار حدا لا يطاق، حيث نفذت المؤن والطعام، وعانى المحاصرون من الجوع الشديد.

يروي الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قصة مؤثرة تعكس حجم المعاناة: “خرجت ذات يوم ونحن في الشعب لأقضي حاجتي فسمعت قعقعة تحت البول، فإذا هي قطعة من جلد بعير يابسة، فأخذتها فغسلتها، ثم أحرقتها ثم رضضتها، وسففتها بالماء فتقويت بها ثلاث ليال”. 2

هذه القصة ليست مجرد رواية تاريخية، بل هي شهادة حية على مدى الجوع الذي وصل إليه المسلمون، حيث أصبح جلد البعير اليابس مصدرا للغذاء والقوت، بعد أن تم غليه وحرقه وسحقه.

ثبات المؤمنين

على الرغم من هذه الظروف القاسية، لم يلن المسلمون، بل زادهم الحصار قوة وثباتا على مبادئهم. كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قدوة في الصبر والتحمل، مؤمنين بأن الله لن يخذلهم.

صمود أسطوري مدعوم بإيمان عميق، وببعض المساعدات الخفية التي كانت تصلهم من بعض المتعاطفين من قريش، مثل هشام بن عمرو العامري وحكيم بن حزام الذي كان يرسل الطعام لعمته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها سرا. 3

هذه اللفتات الإنسانية وإن كانت قليلة، إلا أنها كانت بصيص أمل في ظلام الحصار.

نهاية الحصار وبزوغ الأمل

 بعد ثلاث سنوات من المعاناة في سجن بلا جدران، جاء الفرج من حيث لا يحتسبون. فقد نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بأن الصحيفة قد أكلتها الأرضة، ولم يتبق منها إلا اسم الله. عندما أخبر النبي عمه أبا طالب بذلك، ذهب أبو طالب إلى قريش وأخبرهم بالأمر، وتحداهم أن يجدوا الصحيفة على حالها. وبالفعل، عندما ذهبوا إلى الكعبة، وجدوا الصحيفة قد أكلتها الأرضة، مما كان دليلا قاطعا على بطلان مؤامرتهم. 4

وهكذا تم فك الحصار في السنة العاشرة من البعثة النبوية، ليعود المسلمون إلى حياتهم الطبيعية، ولكنهم خرجوا من هذه التجربة أقوى وأكثر إيمانا وأصلب عودا.

إن قصة مقاطعة شعب أبي طالب ليست مجرد حدث تاريخي، بل هي درس عظيم في الصبر والثبات في وجه الظلم، وتأكيد على أن الإيمان والصمود يمكن أن يهزما أقسى أنواع الحصار والتجويع.

 غزة صرخة الجوع في ضمير العالم

 في عصرنا الحديث، تتكرر فصول المأساة الإنسانية في قطاع غزة، الذي يتعرض لتجويع ولحصار شامل، وتهجير قسري مما يخلق بيئة من الخوف واليأس، في ظل صمت دولي مطبق وتواطؤ أحيانا.

إن ما يحدث في غزة اليوم ليس مجرد صراع سياسي أو عسكري، بل هو كارثة إنسانية بكل المقاييس، حيث يستخدم التجويع كسلاح حرب، ويُحرم السكان من أبسط مقومات الحياة.

عندما يصبح الطعام سلاحا

 منذ سنوات طويلة، يعيش قطاع غزة تحت حصار خانق شامل، بري وبحري وجوي، تزداد وطأته مع كل تصعيد عسكري، يتم تقييد دخول الغذاء والدواء والوقود ومواد البناء، ويمنع حرية الحركة والتجارة، مما يحول القطاع إلى سجن كبير. ويعزل السكان عن العالم، ومع الحرب الأخيرة، بلغ التجويع مستويات غير مسبوقة، حيث استهدفت البنية التحتية للغذاء، ودمرت المخابز والمزارع، وحرم السكان من الوصول إلى مصادر المياه النظيفة. 5

تصف التقارير الدولية الوضع في غزة بأنه من أسوء حالات التجويع التي صنعها الإنسان فيما يقرب من قرن. يضطر السكان إلى البحث عن أي شيء يسد رمقهم، حتى لو كان ذلك يعني أكل العشب أو علف الحيوانات. 6

هذه المشاهد المؤلمة تعيد إلى الأذهان قصص المجاعات في العصور الغابرة، لكنها تحدث اليوم في القرن الحادي والعشرين، تحت أنظار العالم.

صمود أسطوري وإرادة لا تنكسر

 في ظل هذا الواقع المرير، تتصاعد صرخات الألم من غزة، لكنها مقرونة بصمود أسطوري. حيث يرفض أهل غزة الانكسار، ويتمسكون بأرضهم وحقوقهم، على الرغم من كل الظروف.

صمود لكنه ليس مجرد شعارات، هو واقع يومي يعيشه الأطفال والنساء والشيوخ، الذين يواجهون الموت جوعا ومرضا، لكنهم يرفضون الاستسلام. إنهم يسطرون بدمائهم وصبرهم أروع قصص البطولة والفداء، ويذكرون العالم بأن الظلم لا يدوم مهما طال، وأن الحق سينتصر في النهاية.

تشابهات مؤلمة بين الأمس واليوم

 على الرغم من الفارق الزمني الشاسع، إلا أن هناك أوجه تشابه بين حصار شعب أبي طالب وما يحدث في غزة اليوم. هذه التشابهات ليست مجرد مصادفات تاريخية. بل هي انعكاس لأساليب الظلم التي تتكرر عبر العصور:

التجويع:

كان التجويع هو الأداة الرئيسية للضغط على المسلمين. منع الطعام والشراب عنهم، مما أدى إلى معاناة شديدة، بهدف إجبارهم على التخلي عن مبادئهم، إنه سلاح الظالمين الأبدي.

الحصار الشامل:

عزل المسلمين عن العالم الخارجي ومنع أي تفاعل معهم بالإضافة إلى الحرمان من أبسط مقومات الحياة.

الصمود الأسطوري في وجه الحصار والتجويع:

إرادة لا تقهر، وتمسك بالعقيدة والمبادئ وعدم التراجع رغم شدة المعاناة.

التواطؤ والصمت:

جريمة تتكرر، تواطؤ من بعض القوى الكبرى مما يفاقم من معاناة المضطهدين.

إن هذه المقارنة ليست دعوة للتشاؤم بقدر ماهي دعوة للتأمل في التاريخ، واستخلاص الدروس والعبر. إنها تذكير بأن الظلم يتكرر، ولكن الصمود والإيمان هما السلاح الأقوى في مواجهته. وكما انتهى حصار شعب أبي طالب بفضل الله وصمود المؤمنين، فإن الأمل يحذونا بأن ينتهي حصار غزة وأن ينتصر الحق في النهاية.

خاتمة

إن المقارنة بين الحصارين ليس مجرد سرد تاريخي، بل هي دعوة للتأمل العميق في طبيعة الظلم البشري، وقدرة الإنسان على الصمود في وجه أقسى الظروف وأعتاها، لقد أثبت التاريخ في كلتا الحالتين أن التجويع والاضطهاد مهما بلغا من قسوة، لا يمكنهما كسر إرادة الشعوب الحرة الأبية التي تتمسك بحقوقها وعقيدتها. إن ما يعانيه أهل غزة اليوم هو امتداد لمعاناة إنسانية تكررت عبر العصور، ولكنها تظل وصمة عار في جبين الإنسانية.

إن واجبنا كأفراد ومجتمعات، هو أن نرفع أصواتنا ضد الظلم، وأن نعمل بكل ما أوتينا من قوة لوقف هذه المأساة، وتقديم الدعم والعون للمتضررين المضطهدين. فالتاريخ يعلمنا أن الصمت على الظلم هو مشاركة فيه، وأن النصر دائما حليف الصابرين الصامدين. ولتدم غزة رمزا للصمود والتحدي، ولتبقى قضيتها حية في ضمير كل حر شريف حتى يتحقق النصر والعدل.

 


[1] ويكيبيديا، شعب أبي طالب.
[2] إسلام ويب، حصار النبي صلى الله عليه وسلم في الشعب.
[3] إسلام ويب، الحصار والمقاطعة: دروس وعبر.
[4] راغب السرجاني، المقاطعة والحصار الاقتصادي في شعب أبي طالب.
[5] ويكيبيديا، تجويع قطاع غزة.
[6] الجزيرة نت، غزة تتضور جوعا.. قصة أقسى حصار تجويع في التاريخ الحديث