غزة بين قيمتي العدل والإحسان: مرآة لوعي الأمة ومسؤوليتها

Cover Image for غزة بين قيمتي العدل والإحسان: مرآة لوعي الأمة ومسؤوليتها
نشر بتاريخ

لا تمثل غزة اليوم مجرد رقعة جغرافية محاصرة، بل هي مرآة تعكس حال الأمة كلها، وتعيدنا إلى الأسئلة الجوهرية في الدين والتاريخ والسياسة. فهي امتحان للقيم التي بشر بها الإسلام: العدل أساس العمران، والإحسان غايته. ومن ثم فإن الوقوف مع غزة ليس إحسانًا نقدمه لها بقدر ما هو نصرة لأنفسنا، إذ سنُسأل يوم القيامة: في أي صف كنا؛ مع الناصرين للحق، أم مع الخائنين المطبعين المتخاذلين؟

العدل والإحسان: قيم تأسيسية      

يقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل: 90].

بهذه الآية جمع الله بين العدل والإحسان؛ فالعدل يقتضي رفع الظلم وحماية الحقوق، أما الإحسان فيرتقي إلى معاني الرحمة والتراحم والتضامن. وقد جسّد النبي ﷺ هذا التلازم في سيرته؛ فكان عادلًا في الحكم بين الناس، كما قال ﷺ “اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم” (رواه البخاري ومسلم) وكان محسنًا في السلوك، معلما أن الإحسان ذروة الإيمان “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك” (رواه البخاري ومسلم).

غزة كاختبار للعدل والإحسان   

غزة اليوم تختبر موقع الأمة من هاتين القيمتين؛ فهي عنوان لعدالة مغتصبة وحقوق منتهكة، كما هي رمز للإحسان الذي يتجاوز الحدود القومية ليجسد وحدة الجسد الإسلامي. وقد ذكرنا النبي ﷺ بقوله: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” (رواه مسلم).

كما قال الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “الأمة لا تنهض إلا بالعدل، ولا يكون الإحسان إلا في قلوب من يوقن أن نصرة المظلوم واجب شرعي وإنساني”.

وعليه، فإن التعاطف مع غزة دون عمل سياسي أو إنساني أو ثقافي حقيقي يظل ناقصًا؛ إذ إن النصرة الحقيقية هي التزام بالعدل وممارسة للإحسان.

التربية وبناء الوعي

إن موقف الأمة من غزة يتشكل أساسًا من التربية:

تربية الأجيال على أن قضايا الأمة جزء من الدين، وأن نصرة المظلوم ليست خيارًا ثانويًا، بل واجبًا شرعيًا، قال رسول ﷺ: “كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته” (رواه البخاري ومسلم).

فالمناهج التعليمية والخطاب الديني مطالبان بربط الإيمان بالمسؤولية الاجتماعية والسياسية. بهذا المعنى، تصبح غزة مدرسة للتربية على معاني التضحية والصبر والثبات، كما كانت بدر وأحد مدرسة للصحابة في بناء الوعي الجهادي والإيماني.

نقد الذات أمام الله    

إن أعظم ما تكشفه غزة هو حاجتنا إلى نقد الذات؛ فهي لا تطلب نصرة لذاتها بقدر ما توقظنا للوقوف على مصيرنا نحن. قال تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92–93].

وفي يوم القيامة، لن يُسأل الإنسان فقط عن عباداته الفردية، بل عن موقفه من قضايا أمته وعن نصرة المظلومين. فإما أن يكون من أهل العدل والإحسان الذين نصروا الحق، أو من أهل الخيانة والتطبيع الذين خانوا الأمانة. وهنا يظهر أن نصرة غزة هي نصرة لأنفسنا، لأننا نحدد بها موقعنا في امتحان الله والتاريخ.

إن الجمع بين العدل والإحسان وغزة والتربية يكشف أن القضية الفلسطينية ليست مجرد صراع سياسي، بل هي قضية قيمية وتربوية وروحية. فالعدل يوجب الوقوف ضد الظلم، والإحسان يوسع دائرة النصرة لتشمل البعد الإنساني، والتربية تجعل هذه القيم حية في أجيال الأمة.

وفي النهاية، تبقى غزة سؤالًا مفتوحًا لنا جميعًا؛ يوم يُسأل كل واحد منا أمام الله، هل سيكون في صف الناصرين أم في صف الخائنين؟