عَلم لا يُصادر

Cover Image for عَلم لا يُصادر
نشر بتاريخ

كانت المدينة في ذلك الصباح تُشبه كتاباً مغلقاً على سر كبير، شوارعها تلمع برطوبة الليل، وأزقتها القديمة تتنفس صمتاً يثقل الأرواح. غير أن الساحة الكبرى كانت تتحرك في صمت؛ فقد اجتمع فيها نفر من الناس فرادى وجماعات، كهول، شباب، نساء وأطفال، وجوههم مشبعة بحزن بعيد، كأنهم يأتون من مقبرة لا تهدأ، يحملون صور أطفال غزّة ورايات صغيرة خفيفة، لكن وزنها في القلب كان أثقل من الجبال، لم تتعال أصواتهم بالهتاف، ولم يتدافعوا بالشعارات كما ألفت الساحات، بل تركوا للعيون أن تحمل ثقل الرسالة حيث خرست الألسن. كانت نظراتهم سهاماً ضائعة في فضاء المدينة، تشق صمتها العتيق، وتبعث في الذاكرة صدى الأزمنة وذكرى أجيال حرة ما فتئت تدافع عن اسمٍ عزيز عزة أنفسهم: “فلسطين”.

على حافة الساحة، اصطفت سيارات الأمن الكئيبة، كأنها كُتل من غبار الليل. نزل منها رجال بوجوه جامدة، وأحكموا الطوق على الحشود. كانت خطواتهم حين تقترب تُشبه الطبول التي تُعلن حرباً وشيكة، حرباً ضد العيون لا ضد البنادق.

في تلك اللحظة، ارتفع العلم الفلسطيني في يد شابٍ نحيل. اهتزّت الألوان الثلاثة في الهواء، فانحنى لها الفضاء كله. لكن يد السلطة امتدت فجأة، عنيفة، تحاول أن تنتزع القماش من قبضته. تشبث به كمن يتشبث بيومه الأخير، فانهالت عليه الركلات واللكمات، ليس لذاته، بل لأن العلم في يده صار أثقل من أن يُحتمل. كل ضربة كانت كأنها تُسقط بيتاً في غزّة، أو تكسر ضلعاً في ذاكرة الوطن.

تبعثرت اللافتات تحت الأقدام، وارتبكت الأصوات في صخب الصفارات، غير أن لوحة صغيرة بقيت تُقاوم السقوط. يرفعها طفل لم يبلغ السابعة، بخط متعرج كتب: “غزّة تنزف، ونحن نُمنع من البكاء.” توقّف رجل أمن للحظة أمام العبارة، ارتبك، كأنها صفعة لا يداويها السوط، لكنه سرعان ما مضى في صراخه:

“تفرّقوا!”

تفرّقت الجموع بعد لأي حقاً، لكنهم لم ينكسروا. بعضهم عاد بجرحٍ في كتفه، وبعضهم بدمعة محبوسة في عينه، غير أن الساحة لم تُمحَ من داخلهم. فقد بقي صدى الخطوات، وقع الهراوات، ارتعاش الألوان في الهواء، كلها حاضرة كجرح مفتوح في المخيال.

في المساء؛ جلس شاب على أريكة منزله، يمرر أصبعه على شاشة هاتفه بلامبالاة شاحبة. وفجأة ارتطمت عيناه بعبارة جارحة: “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، كأن الدماء النازفة في غزّة لم تكن سوى أرقام باردة في نشرة جوية عابرة. ارتجف قلبه، وأحس أن تلك الجملة الغادرة ليست سوى الوجه الآخر للهراوة التي نزلت على جسده في الساحة؛ فالإعلام، هو الآخر، صار أداةً للجلد، يبدّل الأدوار بوقاحة، ليُلبس الجلاد ثوب الضحية.

ألقى بالهاتف بعيداً، كأنما ينزع خنجراً مغروساً في خاصرته، ثم تناول دفتراً قديماً، وأطلق قلمه يصرخ بما عجز صوته عن قوله:

لقد أرادوا للساحة أن تكون مقبرةً للرموز، فإذا بها تتحول إلى رحمٍ للذاكرة. فما يُسلب من اليد يعود أغرس في القلب، وما يُطرح أرضاً ينهض في الروح كجبل لا تهزه الرياح. لقد انهالوا علينا بالضرب ليُخرسوا أصواتنا، وركلوا خطانا ليطفئوا مسيرتنا، ومدّوا أيديهم العنيفة ليخطفوا علماً ليس مجرد قماش، بل هو أرض وحيدة ما تزال تقبض على جمر الحرية في عالمٍ مسلوب. تلك الأرض هي نحن، هي الأحرار جميعاً، فهل يجهلون أن ألوان ذلك العلم حين ترتجف في الهواء تتحول إلى دمٍ يجري في عروقنا؟

أسند رأسه إلى وسادته، لا مستسلماً لهزيمة، بل مطمئنا إلى يقين صلب: أن الأعلام قد تُصادر في الساحات، لكنها تظل ترفرف في المخيال الجمعي للأمة، لا تُشترى ولا تُقهر، بل تبقى وعداً مؤجلاً بالانتصار: هناك.. أو هنا.