رابع عيد نجد أنفسنا عالقين في “الألم” الذي لم نجد لأسبابه دفعا. تطاول العدوان، ومعه الصمت والتواطؤ وانكشاف المساحيق. عَظُم الابتلاء؛ يوميا قتل وذبح وقنص وهدم، كل ساعة شهيد ومصاب وأسرة مكلومة، والأمة تواصل عجزها، وشرودها أيضا، حتى لكأن معظم أبنائها تعايشوا مع “المحرقة” بمنطق “القدر الذي لا دافع له”، منتظرين “معجزة ما” تنهي هذا الواقع الذي فاق طاقتهم.
بعد أزيد من 600 يوم من المذبحة العظيمة والهولوكست الدامي، يواصل النظام الدولي -الذي يشرف على سير العالم بناء على قوانين ومعاهدات ومؤسسات- تواطؤه المكشوف وانفضاح نظرته المزدوجة إلى البشر (سادة وعبيد). سقط سقوطا مدويا في “امتحان غزة”، وما كان هَمْهمة حول ساديته واستغلاله لدول الجنوب وخيراتها وطحن أبنائها، وما كان دندنة حول ازدواجية معاييره وانتقائياته وزور ادعاءاته حول الحقوق والحريات وحق الشعوب في تقرير مصيرها، بات هديرا مسموعا يتردد صداه في كل الأرجاء، وقناعة راسخة أن النظام الدولي المعاصر تأسس لخدمة بضع دول وشعوب وبشر وأن العالم في حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى الخلاص من هذه “العصابة” التي تحكم العالم بقبضة الحديد والنار.
بعد كل هذا الذي جرى ويجري في غزة أساسا، وكذا في ضفة “السلطة الشرعية” كما يدعي رسْميُونا وفي القدس والأقصى، بل وفي كل الإقليم، يستمر النظام السياسي العربي في شروده وصمته وخذلانه وخيبته، وهي عادته التي ألفناها سنين عددا، بل إن بعض نُظمه انزلقت إلى قعر بعيد وهي تواصل الترحيب بالمجرم السفّاك وتبسط يدها وتشرع بلادها لهذا الكيان اللقيط (هكذا كان عند النشأة -لقيط- وهكذا سيظل).
بعد كل هذا الحجم من العدوان والتدمير والإبادة والسحق، تأبى غزة المُرْهقة أن تضع السلاح وترفع الراية البيضاء، تنبعث كل مرة من تحت رماد العدوان صمودا على المعنى ورسوخا في الأرض، تواصل البقاء في المكان وتحافظ على الوجود، تأبى أن تنمحي أو تنحني. تتقدمها مقاومتها الباسلة التي ما انتهى إثخانها في العدو، ولا كفت عن مفاجآتها التي صدرتها للعدو، وأفرحت بها الأمة، وآخرها عملياتها النوعية طيلة أيام الحج والعيد. لتؤكد أن ما يزال في جعبتها الكثير، وأنها سيدة معركة الصبر، وأنها خبيرة الاستنزاف، وأنها لن تُسَلِّم.
بعد هذه المعركة المصيرية (طوفان الأقصى)، وبعد كل الفظاعات التي ارتكبتها وشاهدها العالم وما بقي فيه من ضمير حر يتزايد نموه في أوساط الشباب والمثقفين والفنانين والمفكرين والساسة وعموم المواطنين، تستمر الدويلة اللقيطة في خساراتها الاستراتيجية التي لن تغطيها البنايات المدمرة ولا الدماء المسفوكة، وتواصل نزيفها الحاد على الكثير من الصُّعد في دول العالم ومؤسساته المدنية والحقوقية والعلمية والتجارية. ومن يواكب هذا الرفض المتزايد لشيء اسمه “إسرائيل” ولساديتها وعنصريتها ودمويتها، وهذا الخلاص المتنامي من شيء اسمه “معاداة السامية” وضغطه وإرهابه وترهيبه، سيقف عند تحول حقيقي، كبير، ونوعي في الأوساط الغربية، حتى بات “صوت فلسطين” يتقدّم بل يهجم ويقتحم، ليس فقط الميادين والساحات وإنما المؤسسات والقرارات والقناعات.
إن كنت قد وصلت أيها القارئ إلى هنا، فستلاحظ أن المقالة بدأت بالألم المتسيّد في الأنفس، وانتهت بالأمل المرتسم في الأفق. وتلك واحدة من “الثنائيات المتباينة” التي صاحبتنا على مدار هذا العام والنصف، كما أنه “واقعنا المركب” الذي تتعدد أبعاده، فنستحضر جانبا يُحزن ويؤلم، ثم نتفكر آخر يبشر ويُسعد.
أسعد الله غزة وأهلها، وكل عيد وفلسطين حرة.