عندما نظم الإمام الخصال العشر

Cover Image for عندما نظم الإمام الخصال العشر
نشر بتاريخ

لطالما كانت الخصال العشر محورا لمواضيع مؤلفات عديدة عند الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى؛ بدءا من المنهاج النبوي، وكتاب الإحسان، ورسالة تذكير … كما كانت هذه الخصال، وما يندرج ويتفرع عنها من شعب الإيمان، مرتكزا لأحاديثه السمعية البصرية المسجلة في فيديوهات عديدة.

في هذا المقال سنلقي الضوء على هذه الخصال العشر، في نسخة مختلفة تمثلت في نظمها شعرا، مما يبين لنا جانبا آخر من الملكات الأدبية، والذائقة اللغوية العالية التي تجلت في قدرة الأستاذ عبد السلام ياسين على نظم الشعر وسبر أغواره، وصياغة أشطره بفنية رائقة، نستشف من خلالها طواعية اللغة عند الإمام، وانسيابها عذبة متدفقة بين أنامله.

إن الحديث عن الخصال العشر وقد نُظمت شعرا، يحيلنا مباشرة إلى “المنظومة الشعرية”، حيث استفاض الإمام في مقدمتها في بيان حاجة الأمة إلى الآداب، كوسيلة من وسائل التربية، عندما تكون للكلمة مغزى، تحمل معنى، وتبلغ رسالة، لا أداة تسلية وبضاعة استهلاك.

يقول رحمه الله: “جهاد كلمة في جهاد تربية، مشاركة كلمة وفن وصنعة بلاغية متلطفة وقول بليغ قوي في مشروع تربية متكاملة تحقن مَنَعَة العافية في شرايين أجيال السلامة والإسلام” 1.

وفي هذه المقدمة أيضا أشار رحمه الله إلى أدوار الأديب والشاعر والكاتب في بناء الأمة، وتوظيفهم للكلمة في تبليغ البلاغ القرآني والنبوي، وإلى دورهم الطلائعي في خدمة دعوة الله سبحانه.

لقد حذا الإمام عبد السلام ياسين في منظومته الوعظية؛ حذو بيتين عثر عليهما، نسبهما أبو العباس المقري للإمام البخاري رحمه الله. ذكر ذلك المحبي في “خلاصة الأثر”.

قال الإمام البخاري:

اغتنم في الفراغ فَضْلَ ركوع

فعسى أن يكون موتُكَ بغته

كم صحيح قد مات قبل سقيم

ذهبت نفسه النفيسة فَلْتَه

وهذه الأبيات نظمت على تفعيلات البحر الكامل (مُتَفَاعلن مُتَفَاعلن مُتَفَاعلن) مع بعض الزحافات الخفيفة المعتادة في هذا البحر.

ويتميز هذا البحر بجرس قوي، يعطي إحساسا بالحركة والقوة والنشاط، ويُستخدم كثيرا في الفخر، والحماسة، والمدح، والوصف، والحكمة. واستعمله الكثير من الشعراء في الشعر العربي في المدائح النبوية، والشعر الحماسي، والقصائد الحِكَمِيَّة، وكذا الوصف والغزل. ومن أشهر من برع فيه: المتنبي، وأبو العتاهية، والبوصيري، وابن الفارض. فلا غرو أن نجد الأستاذ عبد السلام ياسين ينحو منحى هؤلاء الأكابر فيختار هذا البحر الشعري لأبيات مقدمة منظومته الشعرية.

يقول ناسجا على المنوال:

وعزيز في سربه مطمئن

سلتته منه المنية سَلْتَهْ

كم خطيب فوق المنابر يشدو

أسكتته للآجال أيّة سَكْتَهْ

في هذا المقال سأختار بيتا أو بيتين أو أكثر من كل خصلة، لأن المجال لا يسمح بالاستفاضة طويلا في الموضوع، غير أن الفكرة قائمة لمزيد من التحليل من خلال بحث، يحلل كل قصيدة على حدة، ويجعل لكل خصلة موضوعا مستقلا عبارة عن سلسلة من منظومات الإمام رحمه الله، وإلا فالمجال واسع للبحث والتنقيب في هذه الدرر الشعرية.

1- الصحبة والجماعة

يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:

ابْك بَلْواك واغتنم فضْلَة العم

ر لتلقى الجليس تَحْمَدُ نَعْتَه

فلنِعْمَ الجليس نافخ مسك

ولَنِعم التقِيُّ خِلاًّ تَخِذْتَه

في هذين البيتين يشير الإمام عبد السلام ياسين إلى أهمية الصاحب الصالح، والجليس التقي، مقتبسا تعابيره من الحديث النبوي. القصيدة يغلب عليها طابع النصح، ولغة تتسم بالقوة والجزالة. وتحمل دعوة إلى التوبة، واغتنام العمر، واختيار الجليس الصالح.

2- الذكر

يفتتح الأستاذ عبد السلام ياسين هذه الخصلة بالبيت الشعري:

اغتنم فضل ساعة ونهار

وازجر النفس عن هوىً قد أطعته

إلى أن يقول:

جاءك النور فانْتَحَيْتَ ظلاما

دامسا يائسا بئيسا سكنته

جاءك النور في كتاب مبين

هو قرآنُ رَبِّنا، هل قرأته؟

في هذه الأبيات اعتمد الإمام أسلوب التكرار، ووظيفته هنا التأكيد. وكلماتها تحمل شحنة دينية وروحية قوية دون تعقيد لغوي، مستخدما استفهاما تحريضيا، غرضه تنبيه السامع.

3- الصدق

يقول رحمه الله:

نَسَقَ الصدقِ والتُّقَى فالتزمه

واغتنم ذمّة التقيِّ ونَعته

نعتُه الجزم واليقينُ بِرَبٍّ

صادق الوعد، هل تُراكَ صَدَقْتَه؟

تتسم هذه الأبيات باللغة الوعظية المباشرة، متضمنة أسلوب الأمر والنهي (نسق – التزمه – اغتنم…). والمقصود ليس الإلزام، بل التحفيز والتوجيه الأخلاقي. والأبيات تحث على: الصدق، والتقى، وصحبة التقي، واليقين بوعد الله.

4 – البذل

قم مع الصالحين واغنمْ دُعاءً

وسجوداً في ثُلْثِ ليْلٍ سَهَرْتَه

ثُمَّتَ ابسُطْ يداً ببذل كريم

واكفُل المستعينَ أنَّى لَقِيتَه

بالزكاة، الزكاة، والبذل شَيِّد

رُكْنَ بَيْتٍ لدين أنت ارتضيته

إن أهم ما يميز هذه الأبيات كثرة أفعال الأمر (قم، اغنم، ابسط، اكفل، شيد)، وهي أوامر ترغيب، تحرض القلب على الطاعة.

أما الصور الفنية؛ فـ”شيد ركن بيت لدين” تصوير الدين بالبيت الذي يبنى ويُقوى بالبذل والزكاة. وترمز صورة اليد المبسوطة للسخاء والكرم والعطاء.

وقد جاءت الأبيات مفعمة بروح العبادة: القيام مع الصالحين، الدعاء، السجود في الثلث الأخير، الزكاة والبذل…

أما تكرار كلمة (الزكاة) في البيت الثالث فهو يعطي: تأكيدا معنويا، وتوكيدا صوتيا، وحرسا يلفت الانتباه، وهو تكرار مقصود لبيان أهمية هذه العبادة، ولخصلة البذل أيضا.

5- العلم

يقول رحمه الله في مطلع القصيدة:

اعلموا أنَّه تعالى قريـ

بٌ يقبل التوب إن أسيفا أتيته

أول العلم يا مُسَهّدَ جفن

يا كديد الفؤاد مما اجترحته

أنه عالم الغيوب شهيد

غافر الذنب جل أو كان فلْتَه

يضع الإمام عبد السلام ياسين مخاطبه موضع محاسبة، ويخاطب المتلقي بصراحة مطلقة، لكي يثير انتباهه ويوقظ حسه (اعلموا، يا مسهد جفن، يا كديد الفؤاد).

كما استعمل صور بلاغية مؤثرة، فقام بتصوير المذنب (يا مسهد جفن) في صورة بديعة لشخص أرقته ذنوبه. وشَبَّه القلب الذي أثقلته المعاصي حتى صار “كديدا” أي متعبا وموجوعا.

ويظهر جليا حسن البناء الفني، حيث هناك تسلسل واضح:

1. اعلموا أن الله قريب يقبل التوبة.

2. يا من أتعبته الذنوب، هذا أول العلم.

3. لأنه سبحانه عالم الغيب وغافر الذنب.

6- العمل

أنت مُسْتَخْلَفٌ لتَعْمُرَ أرضا

سُخِّرَتْ للحكيم يَغْنَمْ بَخْتَه

تعبُدُ الله في اكتساب حلال

جالبا للعيال رزقا ضَمِنْتَه

تنحني كادحا بِراحة جِدِّ

مثلما تنحني الركوع رَكَعْتَه

لعل أبرز المعاني التي تتضمنها هذه الأبيات:

٠ الإنسان مستخلف في الأرض

٠ العمل عبادة إذا كان حلالا

٠ السعي للرزق مسؤولية تجاه العيال

٠ ربط العمل البدني بالصلاة

وقد استعمل الإمام أسلوب الخطاب المباشر “أنت”، مما يجعل النص قريبا من النفس.

كما ضمت الأبيات عدة صور بلاغية مؤثرة منها: التشبيه بين العمل والعبادة: “تنحني كادحا … مثلما تنحني الركوع رجعته”.

والأبيات تحمل إحساسا صادقا بأهمية العمل الشريف، مما جعل ألفاظها مليئة بالحرارة والواقعية.

7- السمت الحسن

يقول في مطلع القصيدة:

اغتنم في الحياة فضل امتياز

فضْل سَمْتٍ للصادقين اصطفَيْتَه

لا تكن باسلا بأرض خَلاَءٍ

وجَبانا إن العدوَّ جَبَهته

يُبْتَلى الصدق من ثيابٍ قِصار

أنتَ بَيَّضْتَهَا وفي الصدر زَفْتَه؟

تربط هذه الأبيات بين الفضائل الأخلاقية بالسلوك الظاهر للإنسان، مما يُضيف للنص بعدا تصويريا وحسيا للنص، لأن السمت يُصور الشخصية من الجانب الأخلاقي.

ويغلب على الأبيات أسلوب الخطاب والتحذير، بصورة مباشرة مثل: “لا تكن باسلا – أنت بيضتها”.

من أهم الصور البلاغية، نجد التشبيه والاستعارة، مثل: “يُبْتَلى الصدق من ثياب قصار”، وهنا تصوير الصدق كشيء يُختبر ويُكشف في المواقف الصعبة، أما “ثياب قصار” فرمز للمحن.

كما استخدم أسلوب التضاد: باسلا / جبانا.

كما أن السَّمت هنا ليس مجرد كلمة، بل عنصر فني وجمالي، يُضْفي للأبيات واقعية، حيث تربط القيم بالتصرفات اليومية، وجعل الأخلاق تظهر في هيئة الإنسان.

8- التؤدة

اغتنمْ صبر ساعة من نهار

في حياض المَنُون رَيْبٍ وَردْتَه

في مواطينَ للجهاد شِدادٍ

زَلَّ عزمُ الصنديد فيها وخُضْته

ليس تَسمو شرائعُ الحق جُبْنا

جزعا في الجهاد ضيما أبَيْتَه

استخدم الإمام في هذه الأبيات ألفاظا قوية وواضحة: (اغتنم، مواطين الجهاد، الصنديد، شرائع الحق..). وهي لغة وعظية مباشرة، تحفيزية، تحمل معاني أخلاقية وروحية، فيها دعوة إلى الصبر والمثابرة في مواجهة المصاعب.

أما الصور الفنية المعتمدة فهي التشبيه والاستعارة:

“حياض المنون”؛ استعارة الموت على شكل منطقة، أو ساحة.

“عزم الصنديد”؛ تصوير الإنسان الشجاع بالصلابة والقوة.

9- الاقتصاد

جاء في ختام القصيدة:

وتَقَلَّل فالزهدُ خيرُ شِعارٍ

لِبُناة الأمجاد والعِزِّ شِدْتَه

أَكْسِب الأمة الشريفة مالا

ونماء والخِصْب فيها فَسَحْته

في هذه الأبيات دعوة إلى الزهد وعدم الانغماس في الملذات، وتحفيز المسؤولية تجاه الأمة، وذلك بإكساب الأمة المال والنماء والخصب. والأبيات تعكس وعيا أخلاقيا صادقا بالمسؤولية الفردية، تجاه الذات والأمة، كما تظهر نية صادقة في نشر الفضائل.

ومحور الأبيات: الزهد، والعمل الصالح، وخدمة الأمة، وبناء المجد والنماء…

10- الجهاد

أما في الخصلة الأخيرة، خصلة الجهاد، فيقول في مطلع أبيات قصيدتها:

اغْتَنِم في الحياة فضْلَ جِهاد

فعسى أن يكون مَوتَك بَغْته

فَضَّلَ الله بالجهاد رجالا

فاغْنَمْ الفضل بالجهاد استَفَدْتَه

درجات تعلو بهم لِمَقام

يَغْبِطُ الناس فضله: ليت! لَيْتَه!

في هذه الأبيات يبيّن الإمام رحمه الله فضل الجهاد والمجاهدين ودرجاتهم، ويدعو إلى اغتنام فضل الجهاد في الحياة الدنيا.

اعتمد الإمام في هذه الأبيات على أسلوب التكرار، خاصة كلمة “الجهاد”؛ وذلك للتأكيد على الفكرة الأساس.

واستعمل أسلوب التوسل العاطفي: ليت! ليته! وهو يعبر عن تمني الانضمام إلى صف المجاهدين، مما يزيد من وقع الكلمات في النفوس.

كما تعتمد الأبيات ألفاظا واضحة مباشرة، تسهل إيصال المعنى المتمثل في أهمية الجهاد في سبيل الله.

ختاما

من خلال هذه القراءة للمنظومة الوعظية واستخلاص بعض من خصائصها الفنية الغنية، نستكشف جانبا آخر من الحياة الفكرية للإمام عبد السلام ياسين، وهي ملكته الشعرية الرائقة، والتي تبين جانبا مخفيا لا يتحدث عنه الدارسون، ولا يهتم به الباحثون، لأن أنظارهم اتجهت نحو مواقفه السياسية، مما حجب عن الأنظار شاعريته الصادقة وقاموسه الواضح القوي المتين، والذي يمتح من البيان القرآني والبلاغة النبوية، ويبين تكوينه العلمي العالي الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة.

وما “المنظومة الوعظية” إلا غيض من فيض، حيث نجد ديوان “قطوف”، وأبيات عديدة ختم بها كل محور من كتاب “الإحسان”، وغيرها كثير… تستحق الدراسة والتحليل والغوص في معانيها العذبة الصافية. وتظهر لنا جانبا مخفيا يتمثل في كون الإمام شاعرا، يمتاز ببلاغة صافية، وتعابير رائقة، وجمالية فنية، تُعَد من النعم الكثيرة التي حباه المولى بها، والتي وظفها رحمه الله في خدمة الدعوة إلى الله وتحقيق الغايتين الاستخلافية والإحسانية.


[1] عبد السلام ياسين، المنظومة الوعظية، ط1996/1، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ص21. انظر سراج:

https://siraj.net/ar/books/المنظومة-الوعظية/pages/21?q=جهاد%20كلمة%20في%20جهاد%20تربية