سيدنا عمر بن الخطاب المعروف بشدته في الحق وقوة بأسه كان يعد موائد الطعام للناس في المدينة ذات يوم، فرأى رجلاً يأكل بشماله، فجاءه من خلفه، وقال: “يا عبد الله: كل بيمينك“، فأجابه الرجل: يا عبد الله إنها مشغولة. فكرر عمر القول مرتين فأجابه الرجل بنفس الإجابة. فقال له عمر: وما شغلها؟ فأجابه الرجل: أصيبت يوم مؤتة فعجزت عن الحركة.
فجلس إليه عمر وبكى وهو يسأله: من يوضئك؟ ومن يغسل لك ثيابك؟ ومن يغسل لك رأسك؟ ومن ومن ومن؟ ومع كل سؤال ينهمر دمعه. ثم أمر له بخادم وراحلة وطعام وهو يرجوه العفو عنه لأنه آلمه بملاحظته على أمر لم يكن يعرف أنه لا حيلة له فيها.
هكذا تصنع القوانين.
وكان يخرج ليلاً في شوارع المدينة وأزقة الحواري لا ليتلصص على رعيته ولكن ليتفقد حالها، وذات مساء إذ بأعرابية تناجي زوجها الغائب وتنشد في ذكراه شعراً:
لقد طال هذا الليل واسود جانبه
وأرقني إذ لا حبيب ألاعبه
فلولا الذي فوق السماوات عرشه
لزعزع من هذا السرير جوانبه
فيقترب أمير المؤمنين لما تناهى إلى سمعه شعر المرأة، ثم يسألها من خلف الدار: ما بك يا أختاه؟ فترد الأعرابية: لقد ذهب زوجي إلى ساحات القتال منذ أشهر وإني أشتاق إليه.
فيرجع أمير المؤمنين إلى دار ابنته حفصة رضي الله عنها ويسألها: كم تشتاق المرأة إلى زوجها؟ وتستحيي الابنة وتخفض رأسها فيخاطبها متوسلاً: إن الله لا يستحي من الحق، ولولا أنه شيء أريد أن أنظر به في أمر الرعية لما سألتك. فتجيب الابنة: أربعة أشهر أو خمسة أو ستة.
ويعود الفاروق إلى داره ويكتب لأمراء الأجناد “لا تحبسوا الجيوش فوق أربعة أشهر“، ويصبح الأمر قانوناً يحفظ للمرأة أهم حقوقها.
تابع مسار القانون فلم يصغه الجهاز التنفيذي للدولة بل صاغه المجتمع: الأعرابية وحفصة، واعتمده الجهاز التنفيذي للدولة لينظم به المجتمع.
هكذا تَشكَّل قانون المرأة.
والفاروق ذاته رضي الله عنه يواصل التجوال المسائي متفقداً، وإذ بطفل يصدر أنيناً حزيناً فيقترب من الدار ويسأل عما به؟ فترد أم الطفل: “إني أفطمه يا أمير المؤمنين“.
حدث طبيعي؛ أُم تفطم طفلها ولذا يصرخ، ولكن أمير المؤمنين لا يمضي إلى حال سبيله، بل يحاور أُم الطفل ويكتشف أن الأم فطمت طفلها قبل موعد الفطام لحاجتها لمائة درهم كان يصرفها بيت مال المسلمين لكل طفل بعد الفطام.
يرجع الفاروق إلى منزله لا لينام، إذ أنين ذاك الطفل لم يبارح عقله وقلبه، فيصدر أمراً “بصرف المائة درهم للطفل منذ الولادة وليس بعد الفطام“. ويصبح الأمر قانوناً يحفظ حقوق الأطفال ويحميهم من مخاطر الفطام المبكر. لو لم يحاور الفاروق تلك المرأة لما أصدر قانوناً يحمي حق الطفل في الرضاعة الكاملة.
وهكذا تَشكَّل قانون الطفل أو حقوق الطفل.
وكان الفاروق يحب أخاه زيداً، وكان زيد هذا قد قُتل في حروب الردة. وذات نهار بسوق المدينة يلتقي الفاروق وجهاً بوجه بقاتل زيد، وكان قد أسلم وصار فرداً في رعيته، ويخاطبه الفاروق غاضباً: “والله إني لا أحبك حتى تحب الأرض الدم المسفوح“، فيسأله الأعرابي متوجساً: “وهل سينقص ذاك من حقوقي يا أمير المؤمنين”، ويُطمئنه أمير المؤمنين بقوله: لا.
فيغادره الأعرابي بمنتهى اللامبالاة قائلاً: “إنما تأسى على الحب النساء”. أي مالي أنا وحبك إذ ليس بيني وبينك غير “الحقوق والواجب“.
لم يغضب أمير المؤمنين ولم يزج به في السجن، بل كظم غضبه على جرأة الأعرابي وسخريته وواصل التجوال. لم يفعل ذلك إلا إيماناً بحق هذا الأعرابي في التعبير، وبكظم الغضب وهو في قمة السلطة، وبفضل شجاعة هذا الأعرابي.
تَشكَّل في المجتمع قانون حرية التعبير.
ثم امرأة كانت تلك التي جرّدته ذات جمعة من لقب أمير المؤمنين حين قالت “أخطأت يا عمر“، وكانت هذه بمثابة نقطة نظام؛ امرأة من عامة الناس ترفض قانون المهر الذي صاغه الفاروق عمر، ولم يكابر أمير المؤمنين ولم يزج بالمرأة في السجون، ولم يأمر بجلدها، بل اعترف بالخطأ بالنص الصريح “أخطأ عمر وأصابت امرأة“، ثم سحب قانونه وترك للمجتمع أمر تحديد المهور حسب الاستطاعة.
هكذا تصنع القوانين، وهذه أسس ومبادئ الرعاية الاجتماعية الحقيقية، وهذه هي الأسس الراسخة لمجتمع العمران الأخوي، مجتمع الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
لو قام غيره بمثل بعض هذا في بلاد غير المسلمين، لأقيمت لهم التماثيل في الساحات العامة، ولفاضت المناهج الدراسية بذكرهم وخبر سيرهم.