“عل الجنة”

Cover Image for “عل الجنة”
نشر بتاريخ

بلغة أهل فلسطين الحبيبة، إلى الجنة؛ بهذه العبارة الرقيقة والجميلة ودّع الصحفي مصطفى الثريا عالم التراب، بهذه الجملة الموجزة فارق دنيا الناس، وانتقل إلى رب الناس، هذه العبارة أجمل ما حوته معاجم اللغة العربية، وأروع ما تزينت به كتب السنن والصحاح والتراجم، أعظم ما يوجد في بطون مؤلفات السيرة.

نال الشهادة مصطفى، وحتى صاحبه ورفيق دربه وتوأم روحه الذي صوره؛ حمزة بن وائل الدحدوح، بلغا العلا وأدركا معا الثريا، وقد يصيب المرء بعضا من اسمه، أما مصطفى فقد نال شرف كل محتوى اسمه وحتى لقبه وكنيته .

الثريا هي الجنة، والمصطفى هو مفتاح الجنة، هل كان صاحبنا الشهيد على موعد مع الجنة؟ هل رأى شيئا لم يره غيره؟ أو هل بشر ببشرى كان يسترها؟ كان يردد كلمة الشهادة كثيرا، ويظهر مستبشرا فرحا مسرورا وهو يردد شعاره الخالد: “عل الجنة”.

يتزين ويسرح شعره الجميل ويتعطر، وفي نفسه أنه مقبل على الجنة يتشوف للفوز بالشهادة .يقينا كان يشم رائحة الجنة، ولا نشك أن أرض غزة العزة اليوم كلها معطرة ومخضبة بروائح الجنة، هي أرض الحياة وما أدراك ما الحياة، هي أرض الرباط، وكأني بمناد ينادي بأعلى صوته بين شعاب وأزقة عسقلان، أقبلوا ولا تترددوا، هيا إلى جنة عرضها السموات والأرض! وكأني بالحياة الحقيقية تكتب هناك بدماء الشهداء، وكأني بالموت يصيب العالم، الذي ماتت فيه الآدمية، وقتلت فيه الإنسانية، وانتحر فيه العرب والمسلمون.

حياة تنبعث من تحث الأنقاض لتقيم على العالم المنافق الحجة، حياة تخرج من الركام فتأخذ صورة للأموات .

أدركت اليوم لماذا كان حرص اليهود على العودة لـ”أرض الميعاد”، ولماذا فلسطين؟ فهم يعرفون أن هذه الأرض جزء من الجنة، أما غزة العزة فهي جنة الله في أرضه، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أَوَّلُ هَذَا الْأَمْرِ نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ يَكُونُ خِلَافَةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَكُونُ إِمَارَةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَتَكادَمُونَ عَلَيْهِ تَكادُمَ الْحُمُرِ فَعَلَيْكُمْ بِالْجِهَادِ، وَإِنَّ أَفْضَلَ جهادِكُمُ الرِّبَاطُ، وَإِنَّ أَفْضَلَ رباطِكُمْ عَسْقَلَانُ ” (رواه الطبراني في “المعجم الكبير” (11138)).

“عل الجنة” إذن يا مصطفى، يا ثريا. “عل الجنة” يا حمزة يا دحدوح. “عل الجنة” يا كل الشهداء، بخ بخ… ربح البيع، هنيئا لكم جنة الخلد، جنة عرضها السماوات والأرض.

عن أنس رضي الله عنه قال: “غَابَ عَمِّي أَنَسُ بنُ النَّضْرِ عن قِتَالِ بَدْرٍ، فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، غِبْتُ عن أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ المُشْرِكِينَ، لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ المُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ ما أَصْنَعُ، فَلَمَّا كانَ يَوْمُ أُحُدٍ وانْكَشَفَ المُسْلِمُونَ، قالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعْتَذِرُ إلَيْكَ ممَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ -يَعْنِي أَصْحَابَهُ- وأَبْرَأُ إلَيْكَ ممَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ -يَعْنِي المُشْرِكِينَ-، ثُمَّ تَقَدَّمَ، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ، فَقالَ: يا سَعْدُ بنَ مُعَاذٍ، الجَنَّةَ ورَبِّ النَّضْرِ، إنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِن دُونِ أُحُدٍ، قالَ سَعْدٌ: فَما اسْتَطَعْتُ يا رَسولَ اللَّهِ ما صَنَعَ، قالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا به بِضْعًا وثَمَانِينَ ضَرْبَةً بالسَّيْفِ، أَوْ طَعْنَةً برُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةً بسَهْمٍ، ووَجَدْنَاهُ قدْ قُتِلَ وقدْ مَثَّلَ به المُشْرِكُونَ، فَما عَرَفَهُ أَحَدٌ إلَّا أُخْتُهُ ببَنَانِهِ” 1.

قالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُرَى -أَوْ نَظُنُّ- أنَّ هذِه الآيَةَ نَزَلَتْ فيه وفي أَشْبَاهِهِ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23].

هي الجنة دون غزة، هي رائحة الجنة دون عسقلان، صدق الشهيد مصطفى الثريا.

وعنْ أنَسٍ رضي الله عنه، قالَ: “انْطَلقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى سَبَقُوا المشْركِينَ إِلَى بَدرٍ، وَجَاءَ المُشرِكونَ، فقالَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ: لاَ يَقْدمنَّ أحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى شيءٍ حَتَّى أكُونَ أنَا دُونَهُ فَدَنَا المُشرِكونَ، فقَال رسُول اللَّه ﷺ: قُومُوا إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمواتُ وَالأَرْضُ. قَالَ: يَقولُ عُمَيْرُ بنُ الحُمَامِ الأنْصَارِيُّ رضي الله عنه: يَا رسولَ اللَّه جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمواتُ والأرضُ؟ قالَ: نَعم قالَ: بَخٍ بَخٍ، فقالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَولِكَ بَخٍ بخٍ؟ قالَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رسُول اللَّه إلاَّ رَجاءَ أَنْ أكُونَ مِنْ أهْلِها، قَالَ: فَإنَّكَ مِنْ أهْلِهَا فَأخْرج تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ، فَجَعَل يَأْكُلُ منْهُنَّ، ثُمَّ قَال لَئِنْ أنَا حَييتُ حَتَّى آكُل تَمَراتي هذِهِ إنَّهَا لحَيَاةٌ طَويلَةٌ، فَرَمَى بمَا كَانَ مَعَهُ منَ التَّمْرِ. ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ” 2.

وختاما؛ هذه نصوص كنت أمر بها مر الكرام، أما اليوم فإني أراها تتحقق في الواقع، أحياني الله حتى ألفيتُنِي أفهم آيات وأحاديث. فشكرا لرجال المقاومة الأشاوس الذين فتحوا لنا الباب فنقبل على فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وإنه لجهاد؛ نصر أو استشهاد.


[1] أخرجه البخاري (2805)، ومسلم (1903).
[2] أخرجه البخاري (2805)، ومسلم (1903).