على خطاك حبيبة رسول الله

Cover Image for على خطاك حبيبة رسول الله
نشر بتاريخ

على خطاك حبيبة رسول الله

“لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا” نِعم الأسوة نبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل مناحي الحياة ومجالاتها، وفي الحياة الأسرية المستقرة الدافئة، نموذج يحتدى به، وقدوة لكل زوجين يريدان أن يرقيا بعلاقتهما الزوجية إلى مقامات الإحسان وبلوغ السعادة الدنيوية والأخروية.

لكل من يبحث عن حياة أسرية مستقرة وسعيدة، لمن يبحث عن الاستقرار وعن علاقة زوجية مبنية على الحب والاحترام والتعاون والعطاء و التسامح والتغاضي عن الأخطاء والتضحية… يجدها في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زوجته الطاهرة العظيمة الكريمة بنت الكرام المرأة المجاهدة التي اصطفاها الله عز وجل لتكون حبيبة حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم، إنها السيدة خديجة رضي الله عنها.

إن المتأمل في الحياة الزوجية لأمنا خديجة رفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبرز له بجلاء عمق حبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحبه لها، ويعتبرها أعظم وأروع قصة حب شهدها التاريخ كما يرى بعض العلماء، حب امتد خمسا وعشرين عاما بعد الزواج، وخمسة عشر عاما بعد وفاة السيدة خديجة رضي الله عنها.

سلام عليك أيتها الطاهرة العفيفة ونستأذنك ورسول الله أن ندخل بيتكما ونعيش معكما لحظات شهدت على روعة قصة حبكما.

وقبل أن ندخل غمار هذه القصة لابد من الإشارة إلى أن حياة السيدة خديجة رفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم انقسمت إلى قسمين قسم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم والقسم الآخر بعد البعثة النبوية الشريفة.

قبل البعثة:

امتدت هذه الفترة من زواجهما خمسة عشرة سنة، لكن للأسف أن هذه الفترة لم تتناولها أقلام الرواة ولم تتناقلها ألسنة المحدثين نظرا لعدم وجود أحداث بارزة يلتفتون إليها، لذلك فلم يصلنا عنها إلا اليسير.

لكن المتداول عن هذه الفترة أن السيدة خديجة وهبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حبها وعطفها ووقتها ومالها ولم تعرف بعد أنه سيكون نبي هذه الأمة، ومن الشواهد التي تؤكد ذلك برها وحبها وإكرامها لكل من يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما فعلته مع حليمة السعدية مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم حينما أصاب الناس قحط بعد زواجها من رسول الله، فأتتها حليمة السعدية زائرة فعادت من عندها ومعها من مال الطاهرة السيدة خديجة بعير يحمل الماء وأربعون رأسا من الغنم.

ووصل بر السيدة خديجة إلى أبعد من ذلك حيث كانت ثوبيه أول مرضعة للرسول صلى الله عليه وسلم تدخل على النبي الكريم بعد أن تزوج الطاهرة فكانت تكرمها و تصلها و فاء وكرما لزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم .ومن الشواهد أيضا أنها لما رأت حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لمولاه زيد بن حارثة وهبته إياه وكفلت كذلك ابن عمه علي بن أبي طالب والزبير بن العوام ولم تأل جهدا في تربيتهم وخدمتهم، فكانت لهم خير أم، وأكمل الله سعادتها فرزقها منه بالولد فولدت القاسم وعبد الله وقد توفيا صغارا، وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة الزهراء. وسهرت أمنا الطاهرة على تربيتهم أجمعين بالإضافة إلى ابنتيها هند بنت أبي هالة وهالة بنت أبي هالة، فكانت لهم خير أم، هذه الأمة المجاهدة التي طلع من صلبها سيدة نساء أهل الجنة السيدة فاطمة الزهراء ومن تحتها سيدا شباب أهل الجنة الحسن والحسين، أم تربى في حضنها رجال نصروا الله ورسوله، وكأنها كانت تعدهم وتهيئهم ليحملوا الرسالة رفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن الأمور التي تبين عمق حب السيدة خديجة لزوجها تخفيفها لهمومه ومواساته وتصبيره على ما ألم به من حوادث، لذلك كانت أول شخص يلتجأ إليه نبينا وحبيبنا محمد عليه الصلاة والسلام وذلك لما لها من حكمة في معاملتها مع زوجها، وحسن رفقته ومعاشرته وصحبته، وهذا ما سنلمسه في الفترة الثانية التي ستبدأ بالبعثة النبوية.

بعد البعثة النبوية الشريفة:

وتبدأ هذه الفترة عندما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غار حراء للتعبد والخلوة فكانت السيدة خديجة تسهر على راحته وتتحمل عناء صعود الجبل لتزوده بالمؤونة، ثم ترجع إلى بيتها لتسهر على تربية أبنائها. ساندت حبيبها حبا فيه ويقينا في صدقه وإحساسا بأنه صاحب رسالة عظيمة.

ولذلك هرع إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس إلى غيرها، ذهب إلى الحضن الدافئ والقلب الرحيم ليحكي لها قصته مع جبريل عليه السلام حينما جاءه الحق وهو في غار حراء فقال: “زملوني زملوني”“فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة الخبر: لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق” 1

ومن حكمة السيدة خديجة رضي الله عنها ورجاحة عقلها أنها أخذت النبي صلى الله عليه وسلم “وانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمى، فقالت له خديجه “يا بن عم اسمع من ابن أخيك فقال له ورقة: يا بن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه و سلم خبر ما رأى فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك”فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أومخرجي هم؟” قال نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك انصرك نصرا مؤزرا”. فخرجت السيدة الكريمة وهي تعلم طبيعة الطريق التي سوف تسلكها رفقة رسول الله ولم تترد بالرغم من علمها بخطورة هذه الطريق وهي المرأة الحسيبة الشريفة صاحبة المكانة والشرف في قريش، ولم يثنها كبر سنها عن الجهاد مع زوجها ومساندته ومؤازرته ومواساته بالمال والكلمة الطيبة التي تخفف عنه، فكانت تنشر الإسلام بين النساء وتصهر على حماية النبي صلى الله عليه وسلم لأن أعداء الإسلام كانوا يتربصون به.

هذه هي الطاهرة الزوجة الصالحة أنفقت مالها وجهدها ووقتها نصرة لله ورسوله وألمت بها عدة مصائب لم تنقص من عزيمتها، صبرت على هجرة ابنتها رقية، وطلاق ابنتيها رقية وأم كلثوم من ابني أبي لهب الذي أراد أن يكيد لرسول الله فأمر ابنيه أن يطلقاهما، وتحملت سنوات الحصار ثلاث سنوات في شعب أبي طالب عندما أعلنت قريش مقاطعتها للمسلمين، وتعرض عليها قرش أن تبقى في بيتها لأنها من أشراف قريش وتأبى ذلك وتقول لا أكون إلا حيث يكون المسلمون وتأكل معهم أوراق الأشجار وتجوع في آخر عمرها، وتتحمل كل أنواع الأذى وهي صاحبة المكانة والشرف والنسب والمنزلة العظيمة. ويفك الحصار وسنها قد تجاوز الأربعة والستين ويشتد عليها مرض الموت، ويبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرحلة أخرى في الدعوة سيفقد فيها حبيبته بعدما أسست معه دعائم هذه الدعوة وأدت مهمتها على أكمل وجه وتترك النبي صلى الله عليه وسلم يكمل الطريق لكنه أبدا لم ينساها وظل وفيا لحبها إلى أن التحق بها إلى جوار ربه. وهنا سنودع الغالية ونتتبع شهادت على وفاء الرسول صلى الله عليه وسلم لحبها بعد وفاتها رضي الله عنها.

وفاء رسول الله لأمنا خديجة بعد وفاتها:

يشتد المرض بالسيدة خديجة ورسول الله صلى الله عليه وسلم حزين وهو يرى حبيبته في تلك الحال فيأتيه جبريل من السماء ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: “أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أوطعام أشراب، فإذا أتتك فأقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب” 2

وماتت الطاهرة وعمه أبو طالب في عام واحد وسمي هذا العام الذي توفيا فيه بعام الحزن لشدة حزنه عليهما، وخاف الصحابة لشدة حزنه على فراقهما أن يحدث له حادث.

*ماتت حبيبته ولم يمت الحب في قلبه صلى الله عليه وسلم فقد ظل وفيا لها خمسة عشرة سنة وهناك شواهد كثيرة لا يتسع المقام لذكرها ومنها:

و أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها ما لم يثن على غيرها وكانت أم المؤمنين عائشة تقول :“ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة وما رأيتها، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة” 3

وفي صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: “استأذنت هالة بنت خويلد، أخت خديجة، على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك، فقال: (اللهم هالة). قالت: فغرت، فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش؟ حمراء الشدقين، هلكت في الدهر، قد أبدلك الله خيرا منها” 4 قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ “وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد، عن عائشة قالت‏‏:‏‏ لما بعث أهل مكة في فداء أُسَرَائهم، بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص بن الربيع بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى عليها؛ قالت‏‏:‏‏ فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة وقال‏‏:‏‏ إن رأيتم أن تُطْلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها مالها، فافعلو ؛ فقالوا‏‏:‏‏ نعم يا رسول الله،فأطلقوه، وردوا عليها الذي لها” 5

و بعد وفاة السيدة خديجة بأربع عشرة سنة يوم فتح مكة يرى امرأة عجوزا قادمة، فيترك الكل، ويجلس معها، ثم يخلع عباءته، فيفردها لها على الأرض ويجلس معها، ويتكلم معها ساعة… كل ذلك والسيدة عائشة تراقب ما يحدث من بعيد حتى انتهى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له السيدة عائشة: span class=”hadith”“من هذه يا رسول الله؟ قال:’ إنها صاحبة خديجة.. كانت تأتينا أيام خديجة’، فقالت السيدة عائشة: فيم كنتم تتحدثون يا رسول الله؟ فقال:’ كنا نتذكر الأيام الخوالي’ فغارت السيدة عائشة وقالت: أما زلت تذكر هذه العجوز، وقد واراها التراب، وقد أبدلك الله من هي خير منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:’ لا والله ما أبدلني من هي خير منها، واستني حين منعني الناس، آمنت بي حين كذبني الناس..” 6

‏يا لهذا الوفاء، عاش الحبيب على ذكراها، ولم يتزوج بعدها حتى مرت ثلاث سنوات، وكان يصل أهلها وأحبابها ويغدق عليهم بكرمه إكراما لها، ويتذكر شكل قلادة زوجته بعد هذه السنين ويرق قلبه. الحب ليس كلمة ينطق بها اللسان بل هي مواقف يشهد بها العيان.

فهنيئا لك يا سيدي يا رسول الله بهذه الجوهرة، وهنيئا لك أيتها السيدة العظيمة بحسن صحبتك لرسول الله، كنت حقا سكنه وموقع أنسه، سلام عليك لقد قمت بمهمتك على أكمل وجه، هنيئا لك أيتها الغالية كنت أول من آمن بالله وأول من ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أول من سجد لله، أول من بشر بالجنة، أول من أدى الفرائض رفقة رسول الله، كنت مثالا للزوجة الصالحة الوفية التي تثبت زوجها على الحق وتعينه عليه.

هذا هو بيت الطاهرة السيدة خديجة، فكل من أراد السعادة في الدنيا والاخرة،كل من أراد رضى الله عز وجل، من أراد الاستقرار والحياة الدافئة ندعوه ليسير على خطاك حبيبة رسول الله.


[1] رواه البخاري ج1ص24ومسلم ج1ص97
[2] البخاري ج 8ص 138 ومسلم ج 7ص133
[3] البخاري ج8 ص156ومسلم ج7ص134
[4] البخاري ج8 ص140
[5] تهذيب سيرة ابن هشام:عبد السلام هارون ص105
[6] رواه الامام أحمد 6118 والطبراني في المعجم الكبير 2313 والهيثمي في مجمع الزوائد 9224.