تمثل صلة الرحم مع سائر الشعب البضع والسبعين معالم أساسية وصوى راسخة في طريق السلوك الإيماني الإحساني لا يمكن تجاوزها، نظرا لما يترتب عن الوفاء بحقوقها من مقاصد شرعية تحفظ أواصر الأخوة والدين وتعصم من انفراط عقد الجماعة، لذلك أمر الحق سبحانه وتعالى بتعظيم قدرها واتقاء عاقبة قطيعتها وتضييع حقها، فقال عز من قائل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1].
والمعنى تعظيم قدر الرحم؛ سواء على قراءة الجمهور بالنصب عطفا على اسم الجلالة، وتقديره “اتقوا الأرحام” أي اتقوا حقوقها فلا تضيعوها، أو على قراءة حمزة بالكسر عطفا على الضمير المجرور في (تساءلون به)، أي الأرحام التي يسأل بعضكم بعضا بها، على قول العرب “ناشدتك الله والرحم” (1).
كما حذر الله تعالى من قطع الرحم وتضييع حقوقها، ورتب على ذلك الوعيد الشديد، فقال سبحانه: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد: 23].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله» (2).
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أعمال بني آدم تعرض كل خميس ليلة الجمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم» (3).
لكن على الرغم من التحذير الإلهي، وما ينتج عن قطيعة الرحم من آثار وخيمة على الفرد والمجتمع، فإن الإنسان ما زال غافلا عن أحد أهم أسباب سعادته، بما تشيعه في القلب من محبة، وما تبعثه في النفس من طمأنينة.
فهل يحتاج المرء إلى صدمات قوية وابتلاءات قاسية حتى ينتبه من غفلته، وينهض من وهدته ويتوب من لهوه ولعبه؟
إن التغيرات المختلفة التي عرفها العالم مؤخرا وما زال يعرفها اليوم، بشكل متسارع وعنيف، تكشف عن حقائق كانت من المسلمات المصونة والمضمونة، حتى ابتلي الناس بفقدها أو حالت ظروف قاهرة طارئة عن بلوغها.
إن نظرية التباعد التي صاحبت إجراءات الاحتراز من الجائحة، والتي غزت مفاصل الحياة اليومية، خلفت عند الجميع مشاعر إنسانية قاسية، اختلطت فيها مرارة العجز بشدة الألم جراء فراق الأقارب والأحباب، لمَّا غيبتهم برازخ الموت، أو حالت دون لقائهم المسافات والإجراءات.
نبهت هذه الحقيقة إلى واقع مرير يتفاقم يوما بعد يوم، ويكشف عن غفلة فادحة عن نعمة عظيمة من نعم الله تعالى، وآصرة وثيقة من الأواصر الإنسانية، تلك هي صلة الرحم والقريب.
فأصبحنا نرى اليوم كيف ضعفت هذه الوشيجة في النفوس حتى أصبح المرء لا يرعى من حقوق الأقارب وذوي الرحم إلا أقل الواجب الذي يبرئ به ذمته ويتخفف به من وخز الضمير؛ وقد بلغ التفريط حد إهمال الأبناء للآباء وإيداعهم في مراكز الإيواء.
ورأينا من مظاهر هذا التقصير أنكاها، حين انقلبت معاني المودة والتراحم والتزاور بين ذوي الرحم والقربى إلى تخاصم وتنازع وتحاسد وتباغض وصل حد الاقتتال، وهو لعمري داء الأمم دب إلينا؛ وقد حذرنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم من عواقبه، حين قال فيما روي عن الزبير بن العوام رضي الله عنه: «دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين» (4).
إن انتشار التحاسد والتباغض بين الناس من أكبر أسباب فساد البين وقطيعة الرحم، وهو مظهر من مظاهر رقة الدين وبلى الإيمان.
وقد وردت في القرآن الكريم والسنة المطهرة شواهد كثيرة “تصلح معايير لقياس درجة الاندثار في الإيمان” (5).
من هذه الشواهد، قول الحق سبحانه: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ [الرعد: 21-23]. أي “يَصِلُونَ آباءهم وأمَّهاتهم ببرِّهم بالقول والفعل وعدم عقوقهم، ويصِلون الأقاربَ والأرحام بالإحسان إليهم قولًا وفعلًا” (6).
ومن السنة الشريفة، ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليومِ الآخر فليُكرِم ضيفَه، ومن كان يؤمن بالله واليومِ الآخر فليصِل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليومِ الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت» (7).
اقترنت صلة الرحم بأصل الإيمان بالله واليوم الآخر لاعتبارها مقتضى من مقتضياته، وشعبة من شعبه، يسلك المؤمن على مدارجها إلى الله تعالى ابتغاء مرضاته واتقاء سخطه.
والإيمان قد يبلى في القلوب، فتذبل معه هذه الوشيجة وتضعف أواصرها في السلوك الاجتماعي؛ فيحتاج المرء إلى تجديد إيمانه باستمرار بوجود صحبة ربانية مرشدة، وجماعة مؤمنة حاضنة.
وما دام تحقيق المحبة والألفة والرحمة هي من مقاصد خصلة الصحبة والجماعة، فإن مفهومها يتوسع حتى يشمل المجتمع كله، “من محبة الله تعالى، إلى محبة حبيبه وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، إلى محبة أوليائه تعالى والأخيار من أمته صلى الله عليه وسلم، إلى الوالدين والأقربين، والزوج والزوجة فالجار بالجنب فالضيف العابر.. وعلى نور محبة الله تعالى تتكون نواة المجتمع الإسلامي والأخوي وتتوسع” (8)، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّىّ» (9).
وأول صحبة صالحة يتعلم منها الأبناء مكارم الأخلاق وشعب الإيمان وصلة الرحم، الأم فالأب، ثم الأقرب فالأقرب، يقول الله عز وجل: وَصَاحِبْهُمَا فِى ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان: 15].
وعن أبي هريرة رضي لله عنه، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: “من أحق الناس بحسن الصحبة؟ قال: “أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك ثم أدناك أدناك” (10).
على هذا الأساس، وبالنظر إلى واقع التفكك الأسري والاجتماعي الذي تعيشه الأمة اليوم، تتأكد الحاجة إلى إعادة بناء ما انتقض من عرى الإيمان وشعبه، ومنها بشكل أساسي قيم المحبة والمودة والتراحم والتزاور وصلة الرحم، وتتأكد تبعا لذلك مسؤولية الآباء في تربية الأبناء وتدريبهم على هذه الأخلاق الجامعة الناظمة.
ومن الأسباب المعينة على رعاية حقوق الرحم، وغرس آدابها في نفوس الأبناء، نذكر على سبيل الإشارة والتذكير ما يلي:
1- تدريبهم على صلة الرحم بالقدوة والمثال:
التدريب العملي بالقدوة والمثال الحسن من الأساليب الفعالة في التربية، لسرعة تأثيرها في سلوك الأبناء.
فإذا نشأ الأبناء وهم يلاحظون حرص آبائهم على صلة الأرحام ببر الوالدين، وزيارة الأقارب والإحسان إلى ذوي الحاجة منهم، والمشاركة لهم في الأفراح والأتراح في أجواء من المودة الصادقة والتعاون البناء، لا شك يحدث ذلك أثرا عميقا في نفوسهم بحب ذوي رحمهم وحسن تقديرهم، مما يدفعهم إلى تقليد سلوك الآباء ومحاكاته في هذا الخلق الاجتماعي الرفيع. فعن أبي بكر بن حزم، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: كفيتك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الود يتوارث» (11).
وعن عبد الله بن عمر قال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «احفظ ود أبيك، لا تقطعه فيطفئ الله نورك».
وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه» (12).
2- تعليمهم أنساب ذوي الرحم:
إن تعريف الآباء أبناءهم بأنسابهم وأصولهم يدخل ضمن المقاصد الكلية للشريعة التي يترتب عن حفظها بالتبع مقاصد اجتماعية ضامنة لوحدة المجتمع ورص بنائه، نتيجة بث أخلاق المحبة والمودة والصلة بين أبنائه؛ هذا فضلا عن المقاصد الاقتصادية بتزكية المال وتنميته، والمقاصد الإنسانية بالبركة في الوقت والجهد وإدامة ذكر الأثر. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر» (13).
فالتعارف بين الأقارب وذوي الرحم مهما بعدوا، مجلبة للتآلف والتحاب، وعصمة من التنافر والتخاصم، فعن عمر بن الخطاب أنه قال على المنبر: «تعلموا أنسابكم ثم صلوا أرحامكم، والله إنه ليكون بين الرجل وبين أخيه الشيء ولو يعلم الذي بينه وبينه من داخلة الرحم لأوزعه ذلك عن انتهاكه» (14). وعن عبد الله بن مسعود قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» (15).
3- تجنب الرسائل السلبية عن ذوي الرحم:
قد يصل التنافر والتدابر بين الأهل والأقارب درجة تجعل بعض الآباء يبالغ في سوء الظن بذوي رحمه، ولا يتحرج في الحديث عنهم بكلام سوء، وإفشاء أسرارهم أمام الأبناء، دون أن يلقي بالا أن هذه الكلمات السلبية تقع على مسامعهم وقلوبهم موقع السم البطيء الذي ينخر رباط المحبة والمودة وصلة الرحم، ويوشك أن يهد بناءه من أساسه.
إن مسؤولية الآباء في تربية الأبناء تقتضي ضبط النفس والتحكم في الانفعالات أمامهم، مهما بلغهم من ظلم ذوي القربي وإذايتهم؛ وإلا تعقدت آثار الخصام وامتدت نارها بين الأجيال، كما هو باد في واقع الحال. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إلي وأحلم عنهم ويجهلون علي، فقال: «لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك» (16). ومعنى تسفهم المل، أي تطعمهم الرماد الحار، وفيه دلالة على شدة التأذي لمقابلتهم الإحسان بالإساءة.
لذلك أوصى الشارع الحكيم بتطهير النفس وإفشاء سلامها وطمأنينتها لا العكس، عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام» (17).
خلاصة القول إن حفظ المجتمع من التفكك الذي ينخر جسمه نتيجة عوامل ذاتية وخارجية، من أهم مقاصد الشرع، وأوثق عرى الدين. وسبيل ذلك تقوية الروابط الإيمانية الجامعة والأواصر الاجتماعية، وتفصيل ذلك في حديث دستور المحبة فيما روي عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: حقت محبتي للمتحابين فيَّ، وحقت محبتي للمتواصلين فيَّ، وحقت للمتناصحين فيَّ، وحقت محبتي للمتزاورين فيَّ، وحقت محبتي للمتباذلين فيَّ، المتحابون فيَّ على منابر من نور، يغبطهم بمكانهم النبيون والصديقون والشهداء» (18).
(1) ينظر: الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، 4/217-218.
(2) البخاري (5989) ومسلم (2555) واللفظ له.
(3) رواه أحمد وإسناده صحيح.
(4) رواه الترمذي وأحمد وأبو داود ومالك عن الزبير بن العوام رضي الله عنه.
(5) عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، 1/382.
(6) تفسير السعدي، ص: 416.
(7) البخاري (6138) واللفظ له، ومسلم (47).
(8) ينظر: المنهاج النبوي، ص: 143.
(9) أخرجه البخاري (5971)، ومسلم (2548) واللفظ له.
(10) أخرجه البخاري (5971)، ومسلم (2548) واللفظ له.
(11) البخاري في الأدب المفرد، 1/40، (43).
(12) أخرجه مسلم، (2552).
(13) الترمذي (1979)، وأحمد (8855).
(14) البخاري في الأدب المفرد، (72).
(15) الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
(16) مسلم (2558).
(17) أحمد (5/451) والترمذي (2485)، وابن ماجه (3251) واللفظ له.
(18) أحمد (4/386) والحاكم وابن حبان.