عظماء التغيير (1)

Cover Image for عظماء التغيير (1)
نشر بتاريخ

مقدمة

بسم الله الملك الوهاب، مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء بيده الخير، يعز هذه الأمة بعد حَور، ويبعث فيها من يقيم علم الجهاد بعد انفصام، ويرد إليها عز الدعوة بعد اعتلال، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم “لا يزال الله عز وجل يغرس في هذا الدين بغرس يستعملهم في طاعته” 1 ، فما أن يظهر العوز والخوار في الأمة، وتستكين النفوس إلى واقع الانهزام واليأس، حتى يبعث الله سبحانه فيها رجالا أعدهم لقابل أيامها، يحيون منها ما قد مات وأرم، ويعيدون إلى المعين صفاءه وبريقه، بهم تقوى الأمة، وبهم تنتصر، وبمثل عزائمهم يضرب المثل وبصنائعهم يُذَكر ويُحتدى.

ولقد عرفت الدولة الإسلامية محنا وشدائد كبرى، ومرت بها أيام حوالك كقطع الليل، قصمت من أبناء الأمة الظهر، وأذهبت منهم الحِلم، وأعملت فيهم السيف والبطش، حتى أحنوا لها الرؤوس، وتقاعست لها النفوس، واضطربت لهولها القلوب، حتى إذا ظن الناس الفناءَ وأيقنوا الهلاك، لاحت لهم بوارق الأمل، وطلعت بينهم مواكب من النور، فأغاث الله الأمة بفضله، وأحيا فيها ما أَرِم بقدره، فأقام على ذلك سُرُجا ومصابيح أناروا لها الدرب بعد ظلمة، وأزالوا عنها الغمة بعد فترة، فرُصت الصفوف، وأقيم علم الجهاد، وأمن العباد، وصار دين الله عماد البلاد.

ثم هاهي اليوم أمتنا قد وهنت من جديد، وانهالت عليها الأزمات من كل حدب وصوب، حتى صار لنا في كل بلد مصاب، وفي كل درب خطب وبلاء، فكثرت النعرات، وتشتتت البلاد، وعم الفساد، وغمت الأرزاق، وارتُهِنت الرقاب، واستقوى أهل الأهواء بالأعداء، وأُسكت العلماء، وصار دين الله “تراثا” يعرض للأسياد، والحال تغني عن المقال.

وإننا لنرجو من الملك الوهاب، كما أكرم الأمة في سالف الزمان، أن يجود علينا في قابل الأيام، برجال يعز بهم هذا الدين، ويُجبر الكسر بعد اعتلال.

ونحن نروم من خلال هذا الكتاب أن نعيش مع ذلك الغرس الطيب من الرجال الذين أسعدوا الأمة بفضل الله تعالى بعد كرب وقرح، لنقارن الزمان بالزمان، ونستجلي ما كان في سالف الأيام، من أمثلة في النهوض والتمكين، ليسهل علينا مقارعة أهل الضلال بما نستشفه من عظات وأخبار، فيكون لنا السبق كما كان للأخيار، والزلفى عند الله مآل، وعلى ذلك نطلب من الله المدد والعون والسداد، فالكل إليه ومنه منال.لِمِثلِ ذا عُظَماءُ الدَهرِ قَد خُلِقوا ** كَالشَمسِ في نورِها فَضلٌ عَلى الزَهرِوصلى الله وسلم وبارك على سيد الأنام وعلى آله وإخوانه وحزبه أهل التقى والفضل والإيمان.

قال تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ.

قرون فاضلة

لا تزال ولله الحمد في أمتنا بقية صالحة، وما تزالُ إلى أن تقوم الساعة تلك الجذوةُ التي غُرست في الأمة مشتعلةً نيرة بارزة داعية مبشرة، هي من الله العلي القدير فضلٌ وعطاء وهي من ذلك النبع المتصل برسول الله رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم جاءتنا نقية زكية، أخرجتنا أمةً موحدة مستمسكة بحبلٍ من الله داعيةً ملبية، ذلك فضل تلك القرون الأولى الفاضلة علينا وعلى من سلف من أمتنا ومن خَلَف.

وإنما هذه القوة الدافعة التي لا تزال في الأمة، وهذه الروح السارية، وذلك العلم المؤتل لا تعدو إلا أن تكون من فضائل تلك القرون الزكية النقية التي التحمت بمعية رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما ذلك الزاد والمدد منهم إلينا لا يزال غير منقطع، يجبر ما نكسره نحن بإعراضنا وتولينا، ويرفع السخط والعذاب عنا بما كسبته أيدينا، شهادة في حق أهل الهدى والفضل يحسبها كفيف البصيرة بلاغة لغوية وسجعا أدبيا.

لا ينكر متبعٌ للسنة فضل تلك القرون الأولى المجاهدة، ولا يجحد فضلها ويغمط حقها إلا قليلُ علم عليل فهم، ولا يترضى عن أهلها إلا صاحب غواية وبدعة، مشتغل بقول الخلائق عن اتباع الحق من الخالق.

قال الله تعالى في حق أهل الفضل ممن اتبع الهدى من المؤمنين الأولين: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وجاء في كتاب الله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا وقال تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا.

وعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم” 2 .

وعن سعيد بن أبي بردة عن أبي بردة عن أبيه قال: “صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قلنا لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء قال فجلسنا فخرج علينا فقال مازلتم هاهنا قلنا يا رسول الله صلينا معك المغرب ثم قلنا نجلس حتى نصلي معك العشاء قال أحسنتم أو أصبتم قال فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيرا مما يرفع رأسه إلى السماء فقال النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماءَ ما توعد وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون” 3 .

تلك قرون فضلها الله تعالى علينا كما فضلها رسوله صلى الله عليه وسلم وبلغت عندهما شأوا ومنزلة لم تكن لأحد من العالمين، وما بلغوا ذلك إلا بمزية عطائهم وجهادهم وصبرهم وتضحيتهم، وما نحسب إماء الله من المؤمنات ينجبن للأمة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأترابهم.أولئك أهلُ الفضل حتى ولو فَنوا ** لهم بركاتٌ في الدُنَا ومنافعُلنا ترك أولئك القومُ القدوةَ والأسوة والمثلَ في امتثال دين الله تعالى ونصرته والدعوة إليه، على أيديهم تناقلت صدور العالمين آيات الله تتلوها في أرجاء الكون وآفاقه، وعلى جثتهم وصلت إلينا أحكام دين العلي القدير وأقوال النبي المعصوم وبهم بلغت دولة الإسلام مجدها، وفاضت على العالم خيرا ومجدا ورحمة، وتحملوا من أجل ذلك الأهوال والصعاب وأروا للعالم في صبرهم أيما شَمَم.

عن خباب بن الأرت قال: “شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة قلنا له ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا قال ثم كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون” 4 .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أسرت الروم عبد الله بن حذافة السهمي، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له الطاغية: تنصّر وإلا ألقيتك في البقرة (قِدر)، لبقرة من نحاس، قال: ما أفعل، فدعا بالبقرة النحاس فملئت زيتاً وأغليت، ودعا برجل من أسرى المسلمين فعرض عليه النصرانية، فأبى، فألقاه في البقرة، فغذا عظامه تلوح، وقال لعبد الله: تنصّر وإلا ألقيتك، قال: ما أفعل، فأمر به أن يلقى في البقرة فبكى، فقالوا: قد جَزع، قد بكى: قال ردوه، قال: لا ترى أني بكيت جزعاً مما تريد أن تصنع بي، ولكني بكيت حيث ليس لي إلا نفسٌ واحدة يُفعل بها هذا في الله، كنت أحب أن يكون لي من الأنفس عدد كل شعر في، ثم تسلّط علي فتفعل بي هذا، قال: فأعجب منه: وأحبّ أن يطلقه، فقال: قبل رأسي وأطلقك، قال: ما أفعل، قال تنصّر وأزوجك بنتي وأقاسمك ملكي، قال: ما أفعل، قال قبل رأسي وأطلقك وأطلق معك ثمانين من المسلمين، قال: أما هذه فنعم، فقبّل رأسه، وأطلقه، وأطلق معه ثمانين من المسلمين، فلما قدموا على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قام إليه عمر فقبل رأسه 5 .

بمثل ذا وأفضل منه أوصلت إلينا تلك القرون الفاضلة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم ومن تبعهم دين الله عزيزا، كانوا هم الرجال وهم القدوة وهم الأسوة، جمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة ووحد بهم الصفوف ورباهم على تبليغ دين الرحمة إلى العالمين، فزكت نفوس الأمة من بعدُ بهم وامتد الخير فيها إلى آخر الزمان.

قال تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا.


[1] الإمام أحمد في المسند وابن حبان في الصحيح.\
[2] رواه الشيخان.\
[3] رواه مسلم 2531.\
[4] رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 3416.\
[5] أسد الغابة لابن الأثير باب العين.\