لحظة نوعية بكل المقاييس تلك التي صنعتها جماعة العدل والإحسان عشية الثلاثاء 6 فبراير الجاري، حين عمّمت وثيقة سياسية على الرأي العام الوطني في لقاء صحفي ضم إعلاميين ونخبا ووجوها وقامات، ضمّنتها رؤيتها للواقع السياسي المغربي ومقترحاتها على مختلف صُعد الحياة الجماعية؛ إذ لم يسبق للجماعة أن أصدرت ورقة من هذا الحجم والنوع والعمق والتفصيل والشمول طيلة حياتها الدعوية والسياسية. فهي، بهذا المعنى، حدث غير مسبوق في سيرة أحد أقوى التنظيمات المغربية.
الوثيقة الممتدة إلى حوالي المائتي صفحة، والتي خاضت غمار طرْق كل القضايا الرئيسة تقريبا، يصعب النظر في كل موضوعاتها بالنسبة لكل كاتب منفرد، ليس فقط لإكراه الطول والحيز والمساحة بالنسبة للمقالات وحتى الدراسات، ولكن أيضا لإكراه التّخصص المعرفي والعلمي، إذ كانت الوثيقة، كما تبدو، نتاج خبرة متخصصين وباحثين في مجالات شتى، لا تبدأ من السياسة والاجتماع ولا تنتهي عند الفلاحة والسياحة.
في هذه المعالجة، وقوف عند عتبات الوثيقة وسياقاتها، وإطلالة على أركانها خاصة فيما يعدّ مفصلها الأساس وبنيتها الصلبة. وهي عتبات عشر يُرجى أن تساعد على “قراءة أمينة” للوثيقة ومقترحاتها.
العتبة الأولى: طبيعة الجماعة
ليس ثمة أدنى التباس لدى الجماعة وهي تقدّم هويتها وتعرّف نفسها؛ تنظيم دعوي سياسي ذو عمق اجتماعي واسع، يحمل مشروعا تغييريا متعدّد الأبعاد، غايته العدل للإحسان. وهي كيان ينتمي إلى الحركة الإسلامية بما هي اجتهاد بشري يروم الإجابة عن أسئلة العصر من منطلق الشرع، وبما هي سعي لاستعادة رسالية الأمة وريادتها ومعنى الإنسان ودوره. معان يختصرها شعارها الذي رفعته ابتداء من سنة 1987 “إن الله يأمر بالعدل والإحسان”.
الجماعة وهي تسعى سعيها طيلة أربعة عقود، لم تدفعها مطارق السياسة وضريبتها إلى الابتعاد عن هذا الصداع المزمن، ولا ضغطتها تحولات عدد من نظرائها تحت مسمى “مراجعات” إلى تغيير جلدها والاكتفاء بـ”الخلاص الفردي”، بل حافظت على طابعها “العابر للتخصّصات”.
في هذا الإطار، وضمن مسارها التدافعي، تأتي الوثيقة السياسية باعتبارها رؤية حالية ومقترحا آنيا، وعملا يقع تحت دائرة الشق الثاني في الشعار: العدل.
العتبة الثانية: موقع العدل والإحسان
الوثيقة صدرت عن فاعل يتخذ “موقعا سياسيا” خارج النسق الرسمي، فلا هو داخل مربع سلطتها ولا في دائرة معارضتها. موقع يُسقط من أدوات اشتغاله الآليات والمساحات والمؤسسات التي تتيحها اللعبة السياسية الرسمية ومدخلها الحزب والانتخابات. وتتمترس، كما كانت دائما، في عمل سياسي، ومجتمعي أعم، داخل نسق غير رسمي، تمارس عبره المعارضة الصلبة والسياسة كما تراها، بأدوات ووسائل ومساحات يتيحها الاجتماع السياسي كيفما كان، وتنحو، هي، بها صوب عمق شعبي يتخفّف من قبضة النظام وسياساته.
فالوثيقة، والحال هذا، ليست معروضة على أعتاب السلطان، ولا تنظر في منفذ ما إلى حياض السلطة، ولا تبحث عن موقع ضمن خارطة النسق القائم. لا تفعل ذلك -إلا أن يقع تحول ذاتي نوعي في كل هذا النسق، وهذا اليوم محال عقلا-. وإذا، ما الفضاء الذي ألقت فيه الجماعة وثيقتها، أهي صيحة في واد؟
لعل في جواب رئيس الدائرة السياسية للعدل والإحسان الدكتور عبد الواحد متوكل، وهو يقدم للوثيقة في اللقاء الإعلامي، مدخلا إلى هذا الفضاء؛ حين قال “يُرجى أن تكون (الوثيقة السياسية) مساهمة في تحريك الوضع السياسي الراكد، وإثارة نقاش عمومي حول الإصلاحات العميقة التي يحتاجها بلدنا للخروج من حالة الاختناق التي يعيشها، وما ترتب عليها من إفساد للبلاد وظلم للعباد وحرمان من العيش الكريم لفئات واسعة من هذا الشعب المبتلى”، لعل في جوابه مدخلا إلى هذا الفضاء، الذّهني اليوم، والذي تأمل الورقة أن تكون مدخلا ليصبح شيئا ملموسا بتظافر الصادقين من أبناء الوطن.
العتبة الثالثة: مرجعية الوثيقة
حرصت الوثيقة في فقرة التقديم وفي محور المنطلقات والأفق، كما فيما صاحب لقاء تقديمها من توضيحات، على الالتصاق بمرجعيتها وبالبنية التي تنتمي إليها، وهو ما يتضح في مستويين.
المستوى الأول جرى فيه التأكيد على أن الوثيقة جزء من مشروع واسع، أسّسه الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله صاحب الفكرة والنظرية والمشروع. مشروع له غايات بعيدة استراتيجية تتجاوز الوعاء القائم اليوم لا محليا ولا دوليا، وينتهج مسلكا في تدبير سيره على رقعة الفعل، وعقلنة للمرحلة التي يتحرك ضمن حدودها. فالوثيقة وهي تجيب عن أسئلة المرحلة، بأدوات المرحلة طبعا وبما يمكن فعله لا تصوره، لم تغفل منطلقاتها ولا أسسها ولا غاياتها.
وهكذا جرى التأكيد من داخل الوثيقة نفسها، وإن بلغة تناسب المقام، على: بناء الإنسان، والنظام الشوري، والإسلام منطلقا لقيم المواطنة، ومجتمع العمران الأخوي، وحضور الإسلام في الفضاء العام… فهل بعد الوضوح في الانتساب غموض أو التباس؟!
أما المستوى الثاني فهو أن الوثيقة تنتمي إلى “بنية خارجية” من جهة النص، داخلية من جهة الهيئة المُصْدرة (العدل والإحسان). وفي هذا الصدد، لا يمكن إلا أن نقرأ الوثيقة السياسية ضمن نسق أوسع أصدرت فيه الجماعة -في ظرف عام فقط ودون أن نتوسع أكثر في الزمن- كتاب الصحبة الذي يتطرق لموضوع جوهري يلامس الغاية الإحسانية، ومذكرة إصلاح مدونة الأسرة التي تعرض فيها التعديلات المقترحة… ضمن هذا “النص الواسع” و”المتن المنسجم” ينبغي أن نقرأ الوثيقة واتجاهها وتكاملها مع باقي مجالات الفعل، وهو ما من شأنه أن يساعد الباحثين في سؤالي الاستمرارية مع التطوير أم القطيعة مع التغيير.
العتبة الرابعة: بين الوثيقة والمنهاج
ونحن نستحضر تخوّف بعض الغيورين على الجماعة، وهم يرون ضغوطات ضخمة تتعرض لها الحركة الإسلامية عموما وتحديات هائلة تواجهها، من أن تتخلى عن الأصول وتغير الثوابت، فيتجاوز التعديل مسألة اللغة إلى جوهر الفكرة، من المفيد استحضار أن مساحة الثوابت بما توحي به من اعتصام بالأصول، ومساحة المتغيرات بما توجبه من بحث عن التطوير، تتغير بحسب كل مستوى من المستويات الأربعة الآتية: المشروع الكلي، الورقة المذهبية، الوثيقة السياسية، البرنامج الانتخابي.
إذ كلما صعدنا إلى الأعلى صوب المشروع الكلي (النظرية المنهاجية) والورقة المذهبية (أصول الرؤية السياسية وغاياتها الكبرى) كلما دققنا أكثر في الخطاب ومدى تمثله للأصول والمنطلقات، لأننا نكون حينها بصدد المرجعية العليا التي تقدم الرؤية للذات والأشياء، للغايات والأهداف وأساليب العمل، للمرتكزات الكبرى التي بها تكون الماهية والهوية. وكلما نزلنا إلى ميدان الفعل والأجرأة والتنزيل والتنفيذ والتفاعل مع الواقع (وثيقة سياسية كانت، أو برنامجا انتخابيا حين يحين حينه)، فإن التدبير الراشد والمنطق العاقل يقول بأن حركية الواقع وتغيُّراته تلزم الفاعل بأن يوسع دائرة التطوير والإبداع والأجوبة الجديدة.
إنه إذا كانت الكيانات تفقد رائحتها ولونها وطعمها (هويتها) حين لا تشدّها أصول وثوابت وكليات، وهي تسير في الأرض وتسعى في دنيا الناس عملا وإصلاحا وتغييرا خاصة حين يتطاول الزمن، فإن هذه الكيانات في حاجة إلى مساحات من الوسع، تستحضر فيها روح الثوابت واتجاهها لا شكلها وصرامتها، لتجترح الآليات والأجوبة والأهداف التي عبرها تحقق الممكن، ليكون لبنة في تشييد البناء وخطوة في المسير الطويل.
تلك هي روح العلاقة بين الاستراتيجي والمرحلي، وذلك هو الخيط الناظم بين “الوثيقة السياسية” و”المنهاج النبوي”. وباستحضار أنه لا شيء تغير في الموقف الكلي، من نظام الحكم، ومن موقع الإنسان، فإن وضع أهداف مرحلية ممكنة تستحضر تعدد الفاعلين واختلال موازين القوى وضعف إرادة التغيير واستئساد إرادة السلطوية، لا شك يعدّ شيئا عاقلا ومنهجا أصيلا وتدبيرا حكيما.
وهنا، بقدر ما تتسم العدل والإحسان بالانسجام مع نفسها، فهي بصدد وثيقة سياسية منسجمة مع خطها السياسي العام، ومبادرة مرحلية آنية ضمن مشروعها الاستراتيجي البعيد، تحرص على الوضوح مع غيرها من الفرقاء؛ فتدرك، كما يدركون، أن المشاريع الفكرية والسياسية المتمايزة قائمة وموجودة ومتباينة، وأن تدافعها المحمود لن يرتفع، ولكن لنهيّئ الساحة الديمقراطية التي يجري فيها التنافس أولا (وهذا أحد مرامي الوثيقة السياسية)، ولنوسع دائرة التلاقي والمتفق عليه ثانيا (وهذا أحد مرتكزات الخط السياسي).