كم وددت أن أبعث إلى حضرة جنابك الشريف رسائل الشوق الذي سكن قلبي الضعيف، كم رجوت أن تكون كل ليلة غراء وأن يكون كل يوم أزهر وأنا أجلس إلى حضرتك أستمطر بالصلاة عليك الرحمات، غير أن في قلبي غصة وأنين لحال أمتك من بعدك أثقل كاهلي وأعجز لساني وقيد قلمي.
ما الذي حدث حتى غاب عنا الرجال كما كان آخر عهدك بهم، سيدي رسول الله؟ كان الرجل منهم بأمة، مجرد اسمه يحمل هيبة تقتحم النفوس وتقهر الخوف وتجلب النصر قبل أن تلتقي السيوف. كان الرجل منهم يفديك بالنفس والمال والولد، ولا يقر له قرار حتى يطمئن على صحتك وعلى سلامة خاطرك ويأمن على حياتك. كان الرجل منهم إذا سلك واديا سلك الشيطان واديا آخر، وإذا عثرت دابة في العراق خاف أن يسأل عنها لماذا لم يعبد لها الطريق. كان الرجل منهم على دقة ساقيه كأنه بوزن أحد. كان الرجل منهم يبيع بساتينه لله تجارة رابحة. كان الرجل منهم حييا تستحي منه الملائكة. كان الرجل منهم من نام على فراشك يفديك بروحه. كان الرجل منهم القائد الذي لم يهزمه التاريخ حتى وهو على فراش الموت، يستنكف أن يموت ميتة الجبناء. كان الرجل منهم يؤثر أخاه على نفسه ولو كانت به خصاصة، كان وكان وكان..!
توشك أن تتداعى عليكم الأمم
أجل يا سيدي يا رسول الله، تداعت علينا الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها، يتساوون في الافتراس بعدما أخذوا من أقوامنا مواثيق الذل والخذلان، أعطى علماؤهم الدنية في دينهم ودلسوا على الأمة شرعهم ولووا عنق النصوص ليفتوا بما يرضي أسيادهم، فاستباحوا الحرمات وانتهكوا الحقوق وسجنوا العلماء وأهدوهم إلى سيف الإعدام. سلموا مقدرات الأمة إلى جلاديهم بعد أن غسلت أدمغتهم من كل رائحة تمت إلى الكرامة بصلة. استنزفت طاقاتهم وأموالهم في عبث الليل وبريق الشاشات، قست قلوبهم كالحجارة بل أشد. نشروا الأصوات الحرة بالمناشير، استباحوا الأعراض، دنسوا الحرم، وهدموا المساجد، شوهوا سمعة الشرفاء، باعوا قضايا الأمة بدم الشهداء، وفعلوا ما لم يجرؤ عليه أعداء الملة والدين.
ومن بني جلدتنا من أقر الظالم على ظلمه؛ يتزين له بكلمات تطمئن سيده بينما تطرد النوم من جفنيه ليظل حبيس عذاب الضمير إن بقيت له منه بقية.
سيدي رسول الله صلوات ربي وسلامه عليك.
ماذا انهزم فينا حتى تجرأ علينا من تجرأ؛ يدهس ويطأ بقدمه فوق كرامتنا، ثم لا نحرك من غيرتنا ساكنا؟
عجبا لأمة تختزن الثراء وتسلمه رخيصا لمن تملكوا مصيرنا حتى قادونا بالسلاسل إلى ثقافاتهم ولغاتهم، واستنزفوا منا أدمغتنا تنتج لهم ما نعجز عن فعله هنا.
عجبا لأمة تستورد من الغرب قيما تدين بها وقد أكملتَ لنا الدين وعلمتنا مكارم الأخلاق واستوصيت بالأمة خيرا وجعلت موعدنا معك الجنة.
عذرا سيدي رسول الله.
فلا اقتحم العقبة
وكيف يقتحم العقبات من ظل حبيس نفسه أو أسير أناه؟
يا عبد الله؛ اصحب الرجال لتنفتح لك الطريق، اصحب من علت همته بهمتك وانفتحت بفضل الله مفاتيح قلبك على يديه، وسلم القوس باريها، وحدث روحك أن تلحق الرجال. اقتحم جدار الوهم ومعه الوهن، عش لله بكليتك، وهذا رسول الله مفتاح الوصول، أَحِبَّه كما أَحَبَّهُ الصحابة رضوان الله عليهم، ابذل في سبيل محبته ما تستطيع؛ إن قلبا وسط القلوب أو عقلا وسط العقول أو ساعدا وسط السواعد أو جيبا مع الجيوب.
أما ترى الجمرة المنطفئة تتقد وسط الجمرات، فاختر لك رفقة صدق تعينك على الطريق واقتحم بروحك العقبات وقرر أن تكون الذي يجمل بك أن تكون.
أعط منك لسيدنا رسول الله الأدلة والبراهين.
أخبره أن الذي خلق الرجال في ذاك الزمان ما نضبت منه العطايا.
وأن الذي استعملهم بالأمس ينصرون سيد المرسلين نرجوه أن يستعملنا اليوم ويجعلنا على درب ورثته الكاملين، وأن مفاتح النصر والتمكين لا يتسلمها إلا من وقر في قلبه اليقين، وأن رب العالمين لا يضيع أجر المحسنين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.