عبر من الحج (1): جبل الرحمة بصعيد عرفات والظاهر الذي يحجب الحقائق والأسرار

Cover Image for عبر من الحج (1): جبل الرحمة بصعيد عرفات والظاهر الذي يحجب الحقائق والأسرار
نشر بتاريخ

أُحُد جَبَلٌ يُحِبُّنا ونُحِبُّهُ 1، والنخلة تشبه المؤمن 2، والغرقد بسكوته؛ يوم يُـنطِق الله الشجر والحجر في معركة الانتفاضة ضد جرائم يهود، سيكون منحازا إلى صف الظالمين المفسدين في الأرض. والوزغ، لما ألقي إبراهيمُ ﷺ في النارِ “لم يكن في الأرضِ دابةٌ إلا أطفأتِ النارَ عنه، غيرَها، فإنَّها كانتْ تنفخُ عليه” 3… هذا يدل على وجود خصوصيات خلف ظواهر كثير من المخلوقات، ومن الظواهر الملفتة في أعمال الحج منظرُ صعيد عرفات، الخالي من كل مظاهر الزينة الدنيوية، وكأنه يتشبّه بالحُجّاج في تجردهم من المخيط والمحيط.

وما ينبغي أن يُهِمَّ الإنسان في رحلته إلى الحج، أو في سفره إلى الآخرة ليس البحث عن الغوامض، بل هو الاعتبار بكل الأحداث والمشاهد التي تُؤثِّث قاعة امتحانه والتعلم منها، كما تعلَّم ابن آدم من الغراب حين حار في كيفية التعامل مع جثّة أخيه 4.

مقارنة بين جبل الرحمة بصعيد عرفات وجبال الألب السويسرية

قد يلاحظ الحاج بالعين المجردة أن كل مظاهر الجمال الطبيعية، ومقومات الحياة، من ماء وغطاء نباتي، قد اجتمعت في جبال الألب السويسرية، وأن كل مظاهر الجفاف و”القحط” قد اجتمعت في صعيد عرفات ومنطقة مكة عموما، وأن وصف سيدنا إبراهيم ﷺ في الآية: رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [الحج: 25] مازال قائما. فهل الحكمة الربانية التي اقتضت أن يتجرد الحجاج من المخيط والمحيط، وأن يُبعث رسول الله محمد ﷺ يتيما “فقيرا” ومجردا من كل مظاهر الجاه الدنيوي، وفي بيئة بدوية متخلفة “حضاريا” مقارنة بالفرس والروم حينئذٍ، هي التي اقتضت أن يكون صعيد عرفات بتلك المواصفات؟ الله أعلم بحِكَمِه. والمهم بالنسبة للحاج والإنسان عموما هو أن يعرف أن هذا المكان الذي يبدو في ظاهره متواضعا له خصوصية، إذ لا يكتمل إسلام المستطيع إلا بالحج، ولا يكتمل الحج إلا بالوقوف في عرفات، في زمان مخصوص. ثم يستنتج من ذلك أن المظاهر قد تخدعه، كما قد تخدع خضراء الدمن 5 المقبل على الزواج، ثم يعْبُر من انخداعه بمظاهر الأماكن والجبال إلى ما قد يتعرض له من انخداع بمظاهر الرجال، وما قد ينتج عن ذلك من تفويت فرص أو ارتكاب كبائر، كما حدث لمرافقي أويس القرني في رحلتهم إلى الحج.

أويس القرني ورحلة الحج

كان سيدنا عمر في خلافته يترصّد حجاج اليمن، ويسألهم إن كان فيهم أويس القرني. وفي السنة التي حجّ فيها أويس كان بعض مرافقيه في القافلة يسخرون منه، وكان لتواضعه وحرصه على خدمة ضيوف الرحمان يرعى جِمالهم في أوقات الاستراحة، فلما وفدوا على سيدنا عمر سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ فقالوا فينا رجل بهذا الاسم! ولكنه ليس ممن هو جدير بأن يكون محط اهتمام أمير المؤمنين. فلما رأى عمر الأوصاف التي أخبر بها رسول الله ﷺ قال: “إن رسول الله ﷺ قد قال: إن رجلا يأتيكم من اليمن يقال له أويس، لا يدع باليمن غير أم له، قد كان به بياض، فدعا الله فأذهبه عنه، إلا موضع الدينار أو الدرهم، فمن لقيه منكم فليستغفر لكم” 6.

فمرافقو أويس فاتهم التماس استغفار أويس لهم، ذلك الاستغفار الذي حرص عليه سيدنا عمر لسنوات، وهو المبشر بالجنة. وأُتيحت لهم فرصة الاستفادة من صحبة ولي من أولياء، لكن بساطة مظهره حجبت عن بعضهم خصوصيته، ففاتهم الانتفاع بصحبته، بل وجرّأت بعضهم على السخرية منه، فغامروا بالتعرض لوعيد: “مَن عادَى لي وَلِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ” 7، وفي رواية: “من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربةِ” 8.

الشاهد من منظر عرفات وحج أويس القرني

الشاهد فيما سبق هو أن اقتصار النظر على الظاهر قد تكون نتيجته الحرمان الأبدي؛ فمشركو قريش، لما وقفوا مع الظاهر، ورأوا أن رسول الله ﷺ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ، “وقارنوا بشريته، في ظروفها الخِلقية الجسمية، وفي ظروفها الاجتماعية، ونصيبها من المال والشرف والمكانة قالوا: لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31]) 9.

لذلك، عليك أيها الحاج، أو السالك إلى الله، أن تعلم أن من لوازم هذه الدار، بما هي دار ابتلاء وامتحان، أن تلتبس عليك الحقائق وتخدعك المظاهر، فقد يكون معك في سفرك أشعث أغبر ذو “طِمرينِ 10 لا يؤبَه لَه لو أقسمَ على اللَّهِ لأبرَّهُ” 11، فتؤذيه أو تزهد في صحبته، فتفوتك فرصة الاستفادة منه. فمن اقتصر نظره على ظواهر أهل الله كان محروما، وما حرَم أبا جهل وأبا لهب من دَوْلَة الإسلام (أي من فضله العظيم) وما رماهما في الخسران الأبدي إلا اقتصارُ نظرهما على الظاهر. والسعيد هو الذي كف نظره عن ظواهر أهل الله ونفذت بصيرته إلى أوصافهم الباطنية واقتصر عليها 12.


[1] عن أبي ‌حُميد قال: “أَقْبَلْنا مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن غَزْوَةِ تَبُوكَ، حتَّى إذا أشْرَفْنا علَى المَدِينَةِ قالَ: هذِه طابَةُ، وهذا أُحُدٌ، جَبَلٌ يُحِبُّنا ونُحِبُّهُ” رواه البخاري في صحيحه.
[2] قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليه: (مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةٌ كَالرَّجُلِ المُؤْمِنِ، فأرَدْتُ أنْ أقُولَ هي النَّخْلَةُ، فَإِذَا أنَا أحْدَثُهُمْ، قالَ: هي النَّخْلَةُ) رواه البخاري في صحيحه.
[3] عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: “أنَّ إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ لما أُلقِيَ في النَّارِ لَم تَكنْ دابَّةٌ في الأرضِ إلَّا أطفأَتِ النَّارَ عنهُ غيرَ الوزَغِ، فإنَّه كانَ يَنفخُ عليهِ، فأمرَ رسولُ اللهِ بَقتلِهِ” أخرجه أحمد (24780)، وابن حبان (5631)، وابن أبي شيبة (20258) واللفظ لهم تامًا.
[4] “فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي” [المائدة: 31].
[5] “إياكم وخضراء الدمن، قالوا: وما خضراء الدمن؟ يا رسول الله، قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء”. رواه الدارقطني الرَّامَهُرْمُزِيُّ والعسكري في الأمثال وابن عدي. وقال صاحب خلاصة البدر المنير: هذا الحديث رواه الواقدي من رواية أبي سعيد الخدري وقد علم ضعفه.
[6] رواه مسلم في صحيحه.
[7] رواه البخاري في صحيحه.
[8] رواه البخاري في صحيحه.
[9] ياسين، عبد السلام: الإحسان، ج2، ص202.
[10] ذي طمرين: صاحب ثوبين باليين.
[11] رواه الترمذي في سننه، وقال حديث حسن.
[12] ياسين، عبد السلام: الإحسان، ج2، ص203.