“قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، نجّى اللَّه فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم، فصامه، فقال: أنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه”. 1، وفي رواية: “فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه”. وفي رواية أخرى: “فنحن نصومه تعظيماً له”.
كانت “عاشوراء” ترمز لقومة مباركة تزعّمها سيدنا موسى الكليم عليه السلام ضدّ فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا، ضدّ طاغوت تجبر وبغى، وتكبّر وطغى، وسوّلت له نفسه حتى تجاوز كلّ الحدود ليقول: “أنا ربّكم الأعلى” -وبئس ما قال-.
قسّم الطّاغية المستبدّ شعبه إلى أصناف وأقسام، بعضهم أعزّة كرام، وبعضهم حثالة وطغام، بعضهم سادة وبعضهم عبيد، بعضهم حاشية منعّمون وبعضهم مستضعفون مضطهدون.
وخوفا على سلطانه، ذبح الجبان -بلا رحمة ولا شفقة- أجيالا من المواليد الذكور خشية أن تتحقّق نبوءة بني إسرائيل أو رؤياه التي رأى.
فكانت قومة سيدنا موسى -عليه السلام- التي انتهت بتدخل العناية الإلهية مسفرة لتشقّ لسيدنا موسى ومن معه طريقا في البحر فينجون، ولتغرق الغطريس المتعسّف وجنده فيهلكون.
صام سيدنا موسى –عليه السلام- هذا اليوم الذي منّ الله عزّ وجلّ فيه عليه وعلى قومه بالنجاة من كيد فرعون وجنوده، صامه شكرا لله تعالى على مرّ كلّ تلك السنوات التي عاشها بعد خروجه من مصر، واتخذت بنو إسرائيل هذا اليوم عيدا، فلما أتى سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- إلى المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، على اعتبار أنّه يوم المنّ الإلهي والكرم الربّاني الذي انتهى فيه الحكم الجبري – الديكتاتوري- الفاسد الذي سامهم سوء العذاب لعقود طويلة.
ولا زال اليهود حتى أيّامنا هذه يحتفلون بهذا الحدث التاريخي الذي أصبح يعرف عندهم بعيد الفصح “بيساح” وبعيد الفطير، وعيد الحرية، وعيد الربيع، ويستمر الاحتفال به سبعة أيام، ويحرّم العمل في اليومين: الأول، والأخير من أيام هذا العيد؛ لأنهما يعتبران يومين مقدسين.
ويزعم اليهود أن الله -عز وجل- أوصى بني إسرائيل في سفر الخروج بأن يروي الآباء للأبناء على مر العصور والأجيال قصة الخروج؛ لكي يأخذوا منها العبر والدروس، فقد جاء في الفصل الثالث من سفر الخروج: “وإذا سألك ابنك غدا: “ما هذا؟” فقُل له: “إنه بيد قديرة أخرجَنا الرب من دار العبودية”.
نعم لقد غيّروا تاريخه وأصبحوا يحتفلون به في فصل الربيع أواسط شهر مارس أو شهر أبريل حسب تأريخهم العبري، لكنّ الحدث هو نفسه، حركة تغييرية تحررية وقومة لله تعالى من أجل الانعتاق من ربقة الذل والاستعباد، ومواجهة الظلم والفساد، ومعانقة الحرية وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد.
صام سيدنا موسى عليه السلام عاشوراء شكرا لله تعالى على نعمة النجاة وعلى نعمة الحرية التي حرم منها قومه لعقود طويلة من الزمن، وصامه مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلّم قائلا: “أنا أحق بموسى منكم” وأمر بصيامه، وفي ذلك إشارة ضمنية إلى مساندته صلى الله عليه وسلّم لكل مستضعف في الأرض مظلوم مغلوب على أمره يذيقه الظالمون صنوف الذلّ والهوان…
قال تعالى: وَمَا لَكُمْ لَا تُقَٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلْوِلْدَٰنِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلظَّالِمِ أَهْلُهَا وَٱجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَٱجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا[سورة النساء آية 75.]
سيرتبط يوم عاشوراء بعد سنة إحدى وستين هجرية بحدث آخر يشبه إلى حدّ بعيد الحدث الأول، وسيقترن اسم عاشوراء بقومة سيدنا الحسين السبط -رضي الله عنه- ضدّ الملك العاض الذي مثّله حكم بني أمية.
كان اختيار خليفة المسلمين بعد موت رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- يتمّ عبر مبدأ الشورى الذي ربى النبي صلى الله عليه وسلّم أصحابه عليه لمدّة ثلاث وعشرين سنة. به تمّ الأمر لسيدنا أبي بكر وبه تولى سيدنا الفاروق وأكّد عليه –رضي الله عنه- بدوره عند موته لاختيار الخليفة بعده، ثمّ على أساسه كان اختيار سيدنا علي –رضي الله عنه- إلى أن جاء معاوية بن أبي سفيان فحوّل الوجهة إلى غير ما كانت عليه وجعل نظام الحكم هرقلية وراثية بعد أن كانت شورى.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن صِبياناً من قريش سفهاءَ سيكونون سبب هلاك الأمة. روى ذلك البخاري عن أبي هريرة قال: سمعت الصادق المصدوق يقول: «هَلكَة أمتي على يديْ غِلْمَةٍ من قريش». وكان أبو هريرة رضي الله عنه يمشي في الأسواق ويقول. اللهم لا تدْركني سنةُ ستّينَ ولا إمارة الصبيان!
كانت سنةُ ستين للهجرة هي السنةَ التي مات فيها معاوية شيخُ العصبية القبلية الأمويّة القُرشية، وقعد فيها على عرش الهرقلية الأموية مُقَدَّم صبيان قريش الذين دشنوا هلَكة الأمة.
دشّنوا الهلَكة غلمة قُرَيش، فكانوا الإسوة الخبيثة لكل من أقلّهُ على رِقاب المسلمين عرشٌ أو عُريش.
قطعَ جيشُ يزيدَ الرأس الكريمة رأس الحسين رضي الله عنه. خرج الحسين إلى العراق رافِضاً وِلاية الصبيان السفهاء. كان وَاليا على العراق لصيق في قُريش ابن لقيط من لُقطاء قريش: مات زِياد داهيةُ قريش فوَلَّى بنو أمية ابنه عبيدَ الله سفاك كَرْبلاء.
في كَرْبلاء حُبس جيش ابن زياد مولانا الحسين بن مولانا علي رضي الله عنهما. كان قوامُ الجيش تسعة عشر ألفا، أحاطوا بالحسين وآل الحسين وعشيرة الحسين من العِترة الطاهرة، وهم كانوا واحدا وثمانين رجلا معهم الحُرَمُ من نساء وأطفال.
قاتل الإمام الحسين بشجاعة بعد أن قُتِلَ رجاله. فرموهُ بالسهام وأثخنوه بالجراح حتى سقط. فكان سقوطهُ رمزا لسقوط الشرف. تقدم شقِيٌّ اسمه شِمَّر فوَطِئ الجسد الشريف بحوافِر فرسه، ثم حَزَّ رأسه وذهب به إلى لصيق قريش ليأخذ الجائزة.
نكثَ الشقيُّ ابن زياد بقضيب في ثنايا الرأسِ الشريفة متعجبا من بياض الأسنان متشفيّاً. وفعل مثل ذلك يزيدٌ بن معاوية.
وبقيت الرأس الكريمة في خزانة يزيدَ إلى عهد سليمانَ بن عبد الملك.
قَتْلُ الحسين رضي الله عنه والعبث برأسه بعد دَوْسِ جثته تحت سنابك الخيل كان رفْساً لرَمزِ الإسلام، واستهانةً بمقدساته. كانت أمَّ الهلَكات، إذ وطِئ الغلمان السفهاء تحت الأقدام حرمةَ النبوءة.
قبل كربلاءَ اشتغل يزيدٌ بن معاوية شغلته الشنيعة الفظيعة في قطع أوصال الدين، وهتْك حُرَمه، ونقض عراه.
قامَ عليه علماء المدينة وأشرافها، فَبعث إليهم جيشاً لَجِباً. قتلوا سبعة آلافٍ من أشراف الناس، منهم ثلاثمائة صحابي، وقتلوا عشرة آلافٍ من عامة المسلمين.
وإمعاناً في الجُرْأة على الله أمر يزيد جيشه إذا دخلوا المدينة أن يستبيحوها ثلاثا. شريعة الله تقول. المسلم على المسلم حرامٌ. دمُه ومالُه وعِرْضه. والفاسق العِربيد أمر أن تُستباح ثلاثة أيام أموال المسلمين ودماؤهم وأعراضهم. وهكذا حَبَلت ألْف امرأةٍ من اغتصاب الجيش الهمجيّ الفاتك.
وثالثةُ الموبِقاتِ التي رصّع بها يزيد عهده القصير في السلطة (فإنه هلَك بعد ثلاث سنوات)، القذِرِ في الجرائم، هي غزوُه الكعبَةَ المشرفة البَلدَ الحَرَام في شهر حرام. أمر قائد جيشه أن يرميها بحجارة المنجنيق، وكان عبد الله بن الزبير تحصن في المسجد الحرام.
وعالج صبيان بني أميّةَ ما بقي من حُرَم المسلمين بالمذهبية التي علَّمها شيخ بني أميّة معاوية: السيف.
قال معاوية في إحدى خطبه وقدْ أنِسَ من المسلمين كراهيّة وِلايته: «أما بعد، فإني والله ولِيتُ أمرَكم حينَ وليتُه وأنا أعلم أنكم لا تُسَرّونَ بوِلايتي ولا تحبونها. وإني لعالم بما في نفوسكم من ذلك. ولكني خالَسْتكم بسيفي هذا مخالسةً«.
الاختلاس سَرِقة، والمخالسة حيلة في السرقة. سُرِقَتْ أمةٌ لَمّا سُرِق نظام الحكم فيها.
وكان عبد الملك بن مروان في مثل صراحة معاوية يومَ خطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إني لن أداويَ أمراض هذه الأمة إلا بالسيف… والله لا يأمرني أحد بعد مَقامي هذا بتقوى الله إلا ضربت عنقه.»“ 2
وهكذا ارتبط يوم عاشوراء بفاجعة كربلاء حيث اغتيل سبط خاتم الأنبياء على يد ابن لقيط من اللقطاء.
رفع الإمام الحسين رضي الله عنه لواء الجهاد ضدّ سفيهٍ أورثه أبوه الحكم ونصّبه أميرا على رقاب المسلمين، فاستباح الحرمات، وقتّل العلماء والصلحاء، وروّع مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلّم. فهبّ سيدنا الحسين رضي الله عنه لنصرة المظلومين، وإخراج الأمة من هذا الظلم المبين، وليحبس عن أجيالها ذلاّ سيستمر لمئات السنين، ولا يهمّ إن فارقت الروح الجسد فداء لذلك.
فكان كذلك، وبذل السبط الشهيد روحه ثمنا – ويا له من ثمن-.
ويبقى يوم عاشوراء من الأيام الفاضلة التي تذكّرنا بقومتين مباركتين: الأولى تزعّمها نبي والثانية تزعمها سبط نبي، فشاءت إرادة الله أن ينجو سيدنا موسى عليه السلام ويهلك الطاغية وشاءت مشيئة الله أن يستشهد سيدنا الحسين رضي الله عنه ويعيش الجناة الظالمون بعده مَعِيشَةٗ ضَنكاٗ وهم يحملون وزرا تكاد تنشقُّ له الأرض وتخرّ الجبال هدّا.
وهذه عاقبة القائمين لله، تارة ينتصرون، وتارة يستشهدون فيخلدون.