لعاشوراء قصتان مهمتان لنا في هذه الأيام، كل واحدة منهما مليئة بالعبر الجليلة والدروس العظيمة في تدافع الحق والباطل وفي قيام الدعاة في وجه الطغاة، تبقى صالحة لكل زمان ومكان مع اختلاف الأشخاص والأسماء والمقدمات، حيث النتيجة واحدة وهي أن الحق هو المنتصر في النهاية وأن الباطل مهما طغى وتجبر وانتصر فهو إلى زوال.
القصة الأولى
وهي نجاة سيدنا موسى من فرعون في هذا اليوم الذي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيامه؛ روى الإمام البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما قال: “دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وإذا أناس من اليهود يعظمون عاشوراء ويصومونه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “نحن أحق بصومه”، فأمر بصومه”. هذه القصة تصل بنا إلا أن الحتمية التاريخية تقتضي تغيير الواقع الذي يبدأ بتغيير النفوس تربية وتنظيما من أجل التخلص من الاستبداد بكل أنواعه كما قال الله تعالى: ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال، 53]. إننا حين ننظر في قصة سيدنا موسى مع فرعون نستنتج أن المنهج الفرعوني المتكرر في تاريخ البشرية القائم على الاستبداد بجميع مظاهره وبنتائجه يكون دائما في نهاية المطاف وبالا على الأنظمة وتتحول في النهاية إلى مصلحة الشعوب المستضعفة.
ومن بين مظاهر الاستبداد التي جاءت في هذه القصة:
1- الاستبداد الديني العقائدي والاستبداد الفكري
يمثل فرعون نموذجا للحاكم الطاغية الذي استغل رسوخ التدين والعقيدة في النفوس لإعطاء القداسة لنفسه ولآرائه وأفعاله، فتجبر في الأرض وأصابه جنون العظمة وهوسها، حتى ادعى الربوبية فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات، 24].
ادعاء الربوبية هذا جعله يمتلك العباد والبلاد والثروات وكل مقدرات البلاد فأصبح بعيدا عن المساءلة والمحاسبة وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الزخرف، 51]، لأن الاستبداد الديني والعقائدي هو نتيجة طبيعية للاستخفاف الفكري والمعرفي بعقول الشعوب، مما رباه فيهم من جهل وذل وخضوع وهوان فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ [الزخرف، 54]. ساهم في ذلك بطانة السوء المتمثلة في هامان والتي تحافظ على مصالحها من خلال شرعنة الفساد والاستبداد وتصوير الحاكم على أنه إله يعبد من دون الله وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ [القصص، 38].
2- الاستبداد السياسي
إن المستبد إذا أراد أن يضمن جبروته وتحكمه في العباد والبلاد جعلهم فرقاً وشيعاً وأحزاباً، فيشتت جهودهم ويفرق صفهم وكلمتهم ويستعين ببعضهم على بعض: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص، 4]. فيشرع القوانين التي تخدم مصلحته وحكمه قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ غافر 29. ويمتلك بها مقاليد الأمور فيجعلها في يده وتساعده في ذلك حاشية السوء التي تقوم بالتحريض والتأليب على الحق وأهله، وتنجز الخطط والمشاريع لاستئصاله. وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِى الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف، 127]، مستغلة في ذلك الإعلام الفرعوني – سحرة فرعون – التحريضي على أصحاب الحق، قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى. فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنتَ مَكَاناً سُوًى. قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى طه 56-57. قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى [طه، 63].
3- الاستبداد المالي والاقتصادي
من أكبر الدعائم التي يركز عليها الفراعنة في إحكام قبضتهم على الشعوب، “القارونية”، أي الاستبداد المالي والاقتصادي بنوعيه القارون الإنتاجي والقارون الريعي، التي تضع الدولة وأجهزتها ومقدراتها في خدمة الفساد والاستبداد، وفي المقابل يتم تفقير وتجويع الشعوب حتى تبقى خانعة وتابعة؛ قال تعالى: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ. إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ. وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ. قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي. أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ. فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص، 76-79].
القصة الثانية
التي نستحضرها في ذكرى عاشوراء، استشهاد الحسين رضي الله عنه والذي قام في وجه الحكم العاض الذي كان يمثله يزيد بن معاوية؛ فرعون زمانه الذي استعمل نفس الوسائل التي استعملها فرعون في إذلال شعبه وتوطيد أركان ملكه، فلم يكن من السبط الزكي الطاهر إلا أن قام قومته على الفاسق العِربيدِ يزيد. فتقدم للأمة ببيان حدد فيه موقفه من الاستبداد وأعلن فيه عن رؤيته وبرنامجه للتغيير قال فيه: (أما بعد فإني لم أخرج أشَراً ولا بَطَراً ولا مُفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وسلم أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسيرَ بسيرة جدي وأبي علِيٍّ بن أبي طالب، فمن قبِلني بقَبول الحق فالله أولى بالحق ومن رد علي هذا أصبِرُ حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين). لكن الذين كانوا متحمسين له ولقومته خذلوه وتركوه وحيداً في مواجهة فرعون وهامان وقارون وجنودهما ووقعت مصيبة كربلاء باستشهاد الحسين رضي الله عنه.
إن العقلية الفرعونية والعقلية الهامانية والعقلية القارونية كرموز للفساد والاستبداد بجميع صوره السياسي والديني العقائدي والاقتصادي سنجدها في كل زمان ومكان، وفي الجهة المقابلة سنجد من يقوم في وجه هذا الاستبداد من خلال مشروع حضاري تحرري يُخرج الناس من عبودية فرعون إلى عبادة الله عز وجل ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، إن توفرت شروط القومة/الثورة عند الشعوب من يقظة القلب وإرادة النفس ثم التربية على البذل والتضحية في سبيل الحرية تم التنظيم في حركة شعبية توحد الجهود، ثم نصر الله لعباده المؤمنين.
وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص، 5].