كان التاريخ يسير بهدوء، وكان الصهاينة يمتطون صهوته ويحكمون لجامه ويتحكمون في الوضع، وذات صبح ظهر فرسان غزة الذين بعثوا من رماد الأيام يمتطون خيول المستحيل مسلحين بالإرادة مدججين بالإيمان، فأمسكوا به في السابع من أكتوبر من العام الماضي وأرغموه على التوقف في انتظار انعراجه، نعم، لقد حدث طوفان الأقصى والصهاينة في عز عنفوانهم وقوتهم اخترقوا النظام العربي الرسمي ويتحكمون في مفاصل الإدارة والحكم والاقتصاد والإعلام في الغرب، فشكل انطلاقه، كفعل شريف مبرر أخلاقيا وقانونيا وحقوقيا في خضم بحث المقاومة عن حل لمشكل يراد له أن لا يحل ويعيشونه منذ عشرات السنين في شكل احتلال طال أمده، صدمة تاريخية أسالت المداد الكثير لعمق الدلالات الكبيرة التي حملها، ولقد تداول الإعلام العالمي ومعه الرأي العام العالمي مصطلحا جديدا وهو اليوم التالي للحرب وهو وإن كان يبدو للوهلة الأولى أنه عادي في خضم البحث عن حل للوضع الراهن بعد أن تضع الحرب أوزارها حول من سيدير قطاع غزة، فإنه في الحقيقة يعبر عن عمق الرجة وحجم الصدمة التي أحدثها الطوفان في الكيان، بل في التاريخ وفي العقل الصهيوني وفي العقل الغربي وحتى في العقل العربي.
ومع استمرار وتمدد العدوان وحرب الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، وبمعاينة حجم النار والقنابل والحديد الملقى على ساكنة غزة منذ انطلاق طوفان الأقصى في أكتوبر الماضي، وما صاحبه من قطع الماء والكهرباء والغداء والدواء على سكان غزة وتدمير للبنية التحتية وهدم المدارس والمساجد والكنائس واقتحام المستشفيات، بدأت تتناثر التساؤلات على امتداد حجم الكارثة التي يعاينها الجميع وتتناسل الأسئلة الكبرى في أوربا وأمريكا وفي العالم، ما هي هذه الصهيونية؟ لم كل هذا الحقد وهذه القسوة؟ كيف نشأ هذا الكيان الصهيوني؟ كيف يفكر العقل الصهيوني؟ لماذا انساق الغرب الرسمي معهم؟ من أو ما هو العقل الصهيوني؟ أين هي حقوق الطفل؟ أين هي حقوق المرأة؟ أين حقوق الإنسان؟ أين حق الشعوب في تقرير مصيرها؟ أين القيم الكبرى التي أسست لها الثورات الغربية الكبرى السياسية والعلمية والفكرية في أوربا وأمريكا؟ إلى متى سيستمر تطبيق ازدواجية المعايير المعتمدة في تقييم الأوضاع العالمية؟ إلى متى سيستمر الاحتلال؟ أين العرب والمسلمون من كل ما يحدث؟ لماذا هذا الصمت المريب العربي والإسلامي الرسمي بل التزامهم الكلي بأمن الكيان المحتل؟ أين ذهب عرب حرب 1973 الذين اجتازوا خط بارليف والذين قطعوا البترول عن الغرب الذي يدعم الكيان؟؟؟ هذه الأسئلة الكبرى سيجيب عنها هذا المقال باقتضاب استنادا إلى مجريات طوفان الأقصى وتداعياته مع استدعاء بعض من تاريخ الصراع العربي الصهيوني.
بعد ست سنوات من هزيمة مصر في حرب النكسة عام 1967، قطع العرب البترول عن الغرب واجتاز الجندي المصري خط بارليف سنة 1973 بشكل أسطوري وشكل ذلك الحدث صدمة قوية داخل الكيان الصهيوني فكتبت رئيسة الوزراء كولدا مايير في مذكراتها المعنونة بـ: “حياتي”: “ليس أشق على نفسي من الكتابة عن حرب 1973… لن أكتب عنها من الناحية العسكرية فهذا أمر أتركه للآخرين… ولكنني سأكتب عنها ككارثة ساحقة وكابوس عشته بنفسي وسيظل معي باقيا على الدوام.” فاعتكف العقل الصهيوني على دراسة هذه اللحظة التاريخية الكارثية، وفي هذا الصدد يقول الباحث عصمت سيف الدولة في مقاله “الصهيونية في العقل العربي”: “أعتقد أن الصهيونية وحلفاءها، بعد أن انهزموا عسكريا في جبهة القتال في أكتوبر 1973، فتحوا من جباهنا ثغرات، وغزوا عقولنا. اختصروا الطريق إلى النصر النهائي، فبدلا من احتلال أرضنا جزءا بدأوا في احتلال رؤوسنا فكرة فكرة. بدلا من الاستيلاء على الوطن يحاولون الاستيلاء على البشر ليكون الوطن لهم بعد ذلك بدون حاجة إلى القهر… جردونا من نظريتنا العربية ودسوا في رؤوسنا نظريتهم الصهيونية”.
و قد كان هاركابي أحد رجال تلك المرحلة وهو ضابط عسكري ورجل مخابرات مجرب، عمل مستشارا لمناحين بيغين وإسحاق رابين كما عمل أستاذا في العلاقات الدولية بالجامعة وهو الأب الروحي لحزب العمل ويعتبر أستاذا لقادة بارزين في الكيان الصهيوني منهم شمعون بيريز ويهود باراك… وعمل منسقا عاما للاستخبارات الصهيونية بكافة تشكيلاتها، وكان له إلمام باللغة والتاريخ العربيين وبطريقة تفكير العقل العربي وله اطلاع واسع على الدين الإسلامي، ابتدأ مشواره متشددا مع العرب ويؤمن بالحرب فقط في مواجهتهم وانتهى به الأمر إلى تفضيله استخدام القوة الناعمة للوصول للهدف الأكبر عبر المفاوضات والعلاقات الاقتصادية واعترافه فيما بعد بمنظمة التحرير الفلسطينية كشريك تفاوضي للحصول على تسوية تضمن أمن وسلامة “إسرائيل” عبر سياسة ذات جدوى بغض النظر عن المساحة، وقد أكد المحلل والدكتور النفيسي أن هاركابي وفريقه سار في هذا المنحى بعد دراسة طويلة للوضع ورفع تقريره للجهات المعنية كما ألف كتابا اعتمد فيه على هذا التقرير سماه “العقل العربي” اهتدت إلى أن الشخص العربي من الصعب مواجهته ولكن بطبعه ملول وعاطفي وغير مرتب وغير منضبط وأن المفاوضات الطويلة كفيلة بإرهاقه والحصول منه على ما لا يحصل بالحروب لأنه يعتمد فقط على الهبة المؤقتة… وقد انطلق هاركابي المتوفى سنة 1994 من تجربته الطويلة في الصراع لأنه واكب نشأة الكيان الصهيوني وخاض حرب 1948 وخاض أغلب الحروب مع العرب وآمن كبقية جيله بجدوى القوة العسكرية المبنية على الردع، ولكن صدمة أكتوبر 1973 جعلت الكثير يفكر في استخدام الوجه الآخر للعملة الصهيونية وهي فتح ثغرة في العقل العربي عبر سياسة المفاوضات والقوة الناعمة و”الحوار” وإنشاء العلاقات الدبلوماسية وتطبيع العلاقات مع الجوار، وقد تمكنوا من انتزاع اتفاقية كامب ديفيد سنة 1979 بعد ست سنوات من المفاوضات مع مصر لانتزاع اعتراف مصري بالكيان الصهيوني ولتحييدها في الصراعات المقبلة والتي لعب فيها وزير خارجية أمريكا هنري كيسنجر الدور المهم لإبرام هذه الاتفاقية المشؤومة.
كان كيسنجر حينها قد عين لأسبوع واحد فقط في منصب وزير الخارجية قبل بدء الحرب وكان لا يعرف الكثير عن الشرق الأوسط وأمام حيرته أمام هذا النزاع الصعب والذي استهل معه مهمته بهزيمة إسرائيل ووجد يومها بمكتبه رسالة قصيرة من كولدا مايير من كلمتين :”أنقذوا إسرائيل”، كان الملف كبيرا ولا بد من تطويقه قبل أن يستفحل أمره، فوجد شابا أنقذه من ورطته، يقول الباحث إميل أمين في مقال له تحت عنوان: “كيسنجر والشرق الأوسط… لعبة القدر”: “ولم يكن سوى شاب باحث لم يتجاوز السابعة والعشرين من عمره، سيكون له مستقبل واعد فيما بعدُ، كان اسمه “ريتشارد هاس”، من مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، والذي أقنع كيسنجر بأنّ الشرق الأوسط يجب التعامل معه من خلال نظريّة “الشيخ والخيمة والسوق”، وهي باختصار تفيد بأنّ سيد القبيلة الجالس في الخيمة هو المسؤول عن إدارة شؤون البلاد والعباد، وأنه لا مؤسَّسات تشارعه أو تنازعه، وأن طريقة التعامل الفضلى معه تتمثّل في الجدل اللفظيّ والفكريّ ليصل المرء إلى أفضل نتيجة أو التخلص منه، فهم كيسنجر الدرس سريعًا، وهذا ما مَكَّنه من إقامة علاقة قويّة جدًّا مع الرئيس المصريّ الراحل أنور السادات، ثم مع باقي القادة المعنيين فيما بعد، ويكفي القول إنه الرجل الذي عمل بأسرع ما يمكن على استنقاذ إسرائيل من الزلزال المصري الذي هز أساساته، وعمل على ربح الوقت عبر المجهود الديبلوماسي الذي توخى منه منع تقدم القوات المصرية إلى غاية إيجاد الثغرة العسكرية التي نفذ منها إسحاق شارون بجيشه ونجح في اختراق الجيش المصري وإلى غاية أن يصل المدد العسكري عبر الجسر الجوي إلى الكيان الصهيوني.
وقد نجح كيسنجر في ربط علاقات صداقة مع الملك فيصل رحمه الله الذي كان صارما في موقفه وهدد (سواء عبر المراسلات أو اللقاءات البينية وفق رواية مارتن إنديك في كتابه “سيد اللعبة”) زيادة على قطع البترول عن الغرب وفق الموقف العربي الموحد بقطع العلاقات الدبلوماسية مع أمريكا، وقد أدرك كيسنجر صعوبة الموقف وفكر في خلق شرق أوسط جديد وفق ما تحلم به أمريكا والصهيونية؛ أي وفق استراتيجية تفاوضية تعتمد على زرع “الثقة” وطول مدة المفاوضات لحصول الإنهاك عبر استراتيجية التدرج، يقول الباحث والمفكر معاذ العمري في مقال له تحت عنوان: “سيد اللعبة، أصعب اللحظات في دبلوماسية كيسنجر”: كان كيسنجر ونقلا عن المؤلف، (مارتن إنديك السفير الأمريكي السابق في “إسرائيل”، ومساعد وزير الخارجية للرئيس الأمريكي بيل كلينتون لشؤون الشرق الأدنى ومبعوث الرئيس أوباما للمفاوضات الإسرائيلية_ الفلسطينية في كتابه”: سيد اللعبة، هنري كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط”). ملتزما جدا باستراتيجية التدرج هذه… بحلول عام 1975 وصل السادات إلى نقطة الإنهاك… وقراره بالذهاب إلى القدس بعد عامين لإثبات استعادة السلام… بحلول ذلك الوقت فإن رحلة السادات إلى القدس أثبتت صحة نهج كيسنجر”. ولعل هذه المرحلة كانت فاصلة فقد جسدت قوة العرب وتضامنهم بشكل جدي لأول مرة وآخر مرة، وكان يمكن أن تكون نقطة تحول في تاريخهم وفي تاريخ القضية، ومنذ إبرام اتفاقية كامب ديفيد الكارثية جرت مياه كثيرة تحت الجسر العربي، بدءا باتفاق إجلاء المقاتلين الفلسطينيين من لبنان سنة1982 (مع تسجيل الفشل في إبرام اتفاقية “سلام” مع لبنان سنة1983) فاتفاقية أوسلو سنة 1993 ثم اتفاقية وادي عربة مع الأردن سنة 1994 وأخيرا اتفاقيات أبراهام التطبيعية عام 2020 لتعطي الصورة كاملة عن حاضر الدول العربية المخترق والمنبطح والمطبع.
ورغم أن اتفاقية السلام الموقعة بين مصر والكيان الصهيوني وقعت منذ زمن طويل وكانت في محتواها وأهدافها المسطرة تتوخى مد جسور الصداقة وتطبيع العلاقات، إلا أن الشعب المصري ظل بمنأى عن التوجه السياسي الرسمي وبقيت جل فئاته تنظر للكيان الصهيوني بمنظور المحتل، وفي الجانب الآخر في الكيان الصهيوني لوحظ أن حزب العمل الذي أرسى قواعد الدولة وكان المهيمن على مقاليد الحكم في الكيان الصهيوني أصبح يعيش اليوم على هامش الحياة السياسية فيه بعد انزياح المجتمع “الإسرائيلي” نحو اليمين، وبدأ تراجعه في الحياة السياسية منذ اتفاقية كامب ديفيد ويرجع ذلك إلى مجموعة قواعد مؤسسة للكيان الصهيوني منها أنه كيان عنصري استعماري توسعي مبني على أساس وجود الصراع وتسويقه للمظلومية واختلاق الحروب لضمان استمرار وجوده وذلك بضرورة خلق خطر يهدد الكيان وهو بالتالي لا يستوعب اي تسوية مع الجيران وسيلاحظ المتتبع لهذا الصراع أنه كلما تمت تسوية ما أو تم الاقتراب من تسوية ما يصعد اليمين المتطرف في الانتخابات العامة بفعل التوجيه الإعلامي والمؤسساتي، و يتم التفكير في خلق عدو جديد فبعد مصر سيظهر اسم العراق، وبعد العراق سيذكر اسم إيران، وبعد فتح وغيرها ستذكر “خاماس”، وبعد كل نهاية شخص مقاوم سيدرج اسم جديد كخطر في دوامة لا تنتهي لان الهدف هو تصفية الشعب الفلسطيني، والهدف أكبر من ذلك بكثير، وبعد أوسلو المفروض فيها نظريا وعمليا تسوية الوضع ستظهر الرغبة في عدم التسوية ومحاولة كسب الوقت للتطبيع مع العرب وتمرير صفقة القرن القاضية بترحيل سكان غزة والضفة إلى الدول المجاورة، وهكذا يمكن فهم ما يجري اليوم بقيادة نتنياهو الذي بنى عمله السياسي على أنقاض اتفاقية أوسلو ومعارضة أي تسوية مع الفلسطينيين وهو بهذا السيناريو يكون قد قطف الثمرة وقطع الشجرة، فوظف إنجازات أطر حزب العمل الذين اخترقوا النظام العربي بالأسلوب الناعم ليبدأ نتنياهو وفريقه مسارات أخرى مع الفلسطينيين تختزل كل ذلك في جملة بسيطة وهي أن “عملية السلام أهم من السلام” وليديروا اللعبة التفاوضية بمنتهى البراغماتية والخبث السياسي ويبتلعوا العرب ضمن إطار التطبيع وليقتربوا أكثر من النصر النهائي بالطرق الناعمة في تحقيق الحلم الصهيوني الكبير وهو صهينة الشرق الأوسط، فماذا وقع بعد ذلك؟
قبل الجواب عن هذا السؤال وبعد سرد كل ما سبق يضاف سؤال آخر، كيف يمكن للعربي أو المسلم أو للفلسطيني النهوض من جديد ومواجهة الكيان العنكبوتي المدعوم أمريكيا والذي تلقفت شبكته العالم العربي؟
يبدو الجواب عن هذا السؤال ضربا من الجنون لاستحالته الواقعية باستحضار الواقع المؤسف، ولكن لا بد من توضيح الأرضية التي يتحرك عليها النقاش حتى لا يقع اللبس على القارئ الكريم، وضرورة التمييز بين الصهيونية واليهودية، ومعرفة كيفية نشوء الصهيونية، فاليهودية دين سبق تاريخيا الدين المسيحي والدين الإسلامي يعتنقه شعب اليهود وهم ذرية بني إسرائيل، و إسرائيل هذا هو نبي الله يعقوب بن النبي إسحاق ابن النبي إبراهيم الخليل عليهم السلام، وقد سكنوا مصر في زمن يوسف عليه السلام، وبعث فيهم عشرات الرسل والأنبياء منهم النبي يوسف و موسى وداود وسليمان وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام… وقد أسس اليهود في تلك الأزمنة دولة في فترة أو فترتين عمرت أقل من ثمانين عاما في كل فترة، ولكن وقبل انصرام القرن الأول الميلادي ولظروف سياسية تتعلق بالصراع الدولي حينها كان شتاتهم في الأرض ولم يستقروا في وطن خاص بهم، ومنذ ذلك الحين عاش العقل اليهودي مسالما حذرا متبصرا يساير وضعيته طيلة قرون والتي يعيشها عبر شتات اليهود في العالم على شكل تجمعات صغيرة داخل المدن والقرى في أغلب دول العالم واحتفظوا بلغتهم ومعتقداتهم وخصوصياتهم منذ تشتتهم، وكان هذا العقل جزءا من الحضارة العربية والإسلامية إلى جانب الأكراد والأمازيغ وغيرهم ولا يزال اليهود يتغنون بذلك التعايش مع المسلمين ومنها فترة حكم المسلمين بلاد الأندلس.
بعد واقعة شتات الشعب اليهودي ظهرت النظرية الصهيونية القديمة، ولكن لم يكتب لها تحقيق الأهداف الكبيرة بتجميع اليهود في وطن واحد إلا أنها تمكنت من التوغل في الأديان والمعتقدات السابقة ومنها المسيحية والتي ستثمر فيما بعد المذهب البروتستانتي في زمن الانفتاح الفكري والنهضة الأوربية، ثم ظهرت الصهيونية الحديثة التي ركبت على عنصر اليهود منذ قرنين تقريبا، وبالضبط في سنة 1806 بزغت بوادر ما عرف بالصهيونية الحديثة حين اجتمع المجلس الأعلى لليهود بدعوة من نابليون، واستمرت الفكرة في التبلور والتنظير لها إلى غاية انعقاد مؤتمر الصهيونية العالمي بمدينة بال السويسرية سنة 1898 والذي كانت أبرز نقطة فيه المناداة بتأسيس كيان خاص باليهود بأرض صهيون وهو جبل مقدس لدى اليهود يقع بالقدس، وهو ما تعزز بصدور وعد بلفور وزير خارجية بريطانيا الذي قطعه لزعماء الحركة الصهيونية وخصوصا حاييم وايزمن وروتشيلد سنة 1917 بإقامة وطن لليهود في فلسطين، والذي جاء في سياق تفكير سيطرة بريطانيا وفرنسا على المنطقة بعد أن أوحت للعرب بالمساعدة على ضرورة إنشاء الخلافة العربية والتخلص من العثمانيين، كان ذلك في سياق الحرب العالمية الأولى التي كان فيها العثمانيون قوة محاربة ضمن دول المحور، ولكن بعد إخراج الدولة العثمانية وقعت الخديعة الكبرى فتم تقسيم المنطقة بين بريطانيا وفرنسا وهنا بالضبط ضاعت فلسطين، وهو ما استغلته بريطانيا للتمكين لشعب غادر أرضا لمدة ألفي سنة ليحل محلها في احتلال أرض يقطنها شعب فلسطين، وهذه أغرب أحجية يمكن أن يصدقها عقل وخصوصا في زمن سيادة العقل والعقلانية وسيادة القانون الدولي وعصبة الأمم ومنظمة الأمم المتحدة وبزوغ عصر الحقوق منها حق الشعوب في تقرير مصيرها.
باستقصاء السياق التاريخي لظهور الصهيونية الحديثة الفكري والتنظيمي فقد ظهرت في عز انطلاق الثورات السياسية والفكرية والنهضات الاقتصادية والمالية في أوربا وأمريكا، فحيث إن الثورة الفرنسية والأميركية اللتين بشرتا بالحقوق والحريات دفعت بالقوميات للمطالبة بحقها في تقرير مصيرها وتعززت وفقها المطالبات الهوياتية، فوجد اليهود أنفسهم وهم يشكلون أقلية في كل دولة على حدة خارج هذه الحسابات بحكم عدم تجمعهم في إقليم جغرافي واحد في أوربا ولا في دولة واحدة عبر وجودهم في تجمعات سكانية في المدن والقرى، وفي خضم صراع القوميات الأوربية تولدت الرغبة لدى الأوربيين في التخلص من عنصر اليهود وإفراغهم من أوربا وإشغالهم بإقامة دولتهم وهو ما يترجم صدور مجموعة وعود منها نداء نابليون لليهود عندما وطئت قدماه أرض فلسطين في حملته على مصر والشام بأن يعودوا لأرض الميعاد (فلسطين) وكذا وعد بلفور ووعود أخرى وجهها زعماء غربيون قبل بلفور. وفي هذا الصدد يقول الكاتب أنور الهواري: “الصهيونية ليست أكثر من اختراع أوروبي أملته الضرورة واستدعته الحاجة وقبلتها المصلحة المشتركة”.
وفي هذا الخضم برزت الصهيونية الحديثة كحركة سياسية تبحث لليهود عن وطن لهم في الشرق الأوسط بالضبط لسبب أو لآخر، فوجدت أن المعتقدات البروتستانتية المنتشرة في بريطانيا وأمريكا وأستراليا وغيرها قد مهدت لها السبيل منذ ثلاثة قرون للمناداة بضرورة خلق وإيجاد وطن خاص باليهود. وهنا استغلت الصهيونية نشوء النظام الديموقراطي الذي انبعث في أوربا لنشر أفكارها وتصوراتها المغلفة بالبحث العلمي والفلسفي… كما استفادت من الثورة الاقتصادية والمالية لبسط نفوذها الاقتصادي في عواصم الغرب تمهيدا لإقامة الدولة في أرض صهيون.
وقد شطرت الصهيونية العقل اليهودي إلى شطرين؛ شطر رفض الصهيونية وشطر انساق مع طروحاتها، وفي هذا الصدد يقول الكاتب سامح عودة في مقال له تحت عنوان “صراع اليهودية والصهيونية، هل تتفكك إسرائيل من الداخل؟”: “فقد راكمت الحركة الصهيونية الكثير من الانتقادات والمواقف المعارضة من داخل الصف اليهودي نفسه، الأصولي منه قبل اليساري والعلماني، ففي حين انطلق النقد العلماني من ضرورة اندماج الأقليات اليهودية في مجتمعاتها، واعتبار الصهيونية ردة حضارية لا تعالج مشكلة الجيتوهات اليهودية وإنما تزيدها بخلق جيتو كبير باسم دولة، انطلق النقد الديني من معضلة الماشيح السابق الإشارة، وعلى المستوى الفردي، ظهرت الاحتجاجات اليهودية الأصولية على الكيان الصهيوني الوليد تباعا، فكتب الحاخام موشي هيرش المولود في فلسطين وأحد زعماء حركة ناطوري كارتا المناهضة للصهيونية، في مقال له عام 1977 بالواشنطن بوسط: “أن الصهيونية على نقيض تام مع اليهودية”.
ولكن وقبل أن تظهر الصهيونية الحديثة التي تدعو لإيجاد دولة خاصة باليهود ظهر المذهب البروتستانتي عبر الإصلاح الديني الذي دشنه مارتن لوثر وكان دوره حاسما في الدفع باليهود نحو الواجهة وجلب مزيد من الاهتمام بهم في المذهب الجديد خصوصا بعد كتابه الذي أصدره سنة 1523 بعنوان “المسيح ولد يهوديا”، وهكذا ورغم قضائه الشطر الثاني من حياته يحاربهم ويقسو عليهم في كتاباته خصوصا بعد كتابه: “اليهود وأكاذيبهم” الذي صدر سنة 1544 والذي تضمن سيلا من الشتائم والتهجمات عليهم إذ وصفهم “بأنهم خبثاء ولصوص وقطاع طرق” وفق ما أورده الكاتب والمحلل أحمد الدبش في مقال له تحت عنوان “الصهيونية المسيحية، البروتستانتية” فإن المذهب الذي انتشر انتشارا واسعا قدم خدمات جليلة لهم لربطه انتظارات قسم كبير من المسيحيين بانتظارات اليهود، وفي هذا السياق يقول الأستاذ عبد السلام ياسين في كتابه سنة الله الصفحة 116: “ينتظرون (أتباع مارتن لوثر) نفس ما ينتظره اليهود بنيتين مخلفتين، لكن في تعاون وتضافر كاملين فيما يرجع للجهود المبذولة والنتائج المحصلة”. وهكذا كان المذهب البروتستانتي الذي ظهر منذ خمسة قرون حاسما في المسألة، وفي هذا السياق يقول المحلل عبد الغني سلامة في مقاله تحت عنوان: “هل أصل الصهيونية يهودي أم بروتيستانتي؟: “…يرى المؤرخ اليهودي وأستاذ التاريخ بجامعة مونتريال، يعقوب رابكن أن منبت الصهيونية بروتيستانتي وليس يهوديا” و يقول المفكر حبيب السنافي في مقاله المنشور تحت عنوان “البروتيستانتية والعقيدة الصهيونية”: “أطلق مارتن لوثر عقيدة الإيمان العميق بضرورة وجود اليهود في هذا العالم تمهيداً لعودة المسيح معتمداً على التوراة العبرية في تفسير الكتاب المقدس، مع إيمانه بحرفية نبوءات التوراة وحتمية وقوعها، وأولها نبوءة أحقية عودة اليهود لأرض فلسطين مكوثاً دائماً بها حتى يظهر المسيح ويحكم العالم لألف عام سعيد حسب النبوءة التوراتية، جريرة البروتستانت ربطهم بين الأرض وأهل الكتاب، فاعتبروا فلسطين أرضا تاريخية لليهود، وأن اليهود هم الفلسطينيون الحقيقيون المشردون والمشتتون الذين من الواجب دينيا وتحقيقا للنبوءات التلمودية مساعدتهم لاسترجاع أرضهم من ساكنيها، تجذرت التعاليم البروتستانتية في الدول الأوروبية خاصة بعد ترجمة التوراة من اللغة العبرية، والمصيبة أنها أضحت جزءاً راسخاً في الثقافة الأوروبية والأميركية لاحقاً، حيث توغلت وتمددت في الفلسفة والفنون والآداب والحياة الاجتماعية لتشكل بالتالي ظاهرة خطيرة- بالنسبة لنا- وهي الظاهرة الصهيونية غير اليهودية، فالسواد الأعظم من اليهود آنذاك لم يكونوا يطالبون بالعودة إلى أرض صهيون/ فلسطين، بسبب التباين فيما بينهم في تأويل النبوءات التوراتية”.
لقد كان للصهيونية القديمة التي تسربت للمعتقدات المسيحية الأثر الكبير في ظهور البروتستانتية، كما ساهمت البروتستانتية في خلق الصهيونية الحديثة والتي شكلت نقلة نوعية إلى العالمية والظهور. يقول الكاتب والصحفي أنور الهواري في مقاله “رحلة مع العقل الصهيوني”: “لقد انتقلوا من الارتهان بين جدران الحارات في عواصم ومدن أوروبا إلى الانتشار العميق ليس فقط في بنية النظام العالمي، لكن كذلك في بنية الحضارة نفسها، ليسوا فقط كقوة مالية جبارة، لكن خلال القرون الثلاثة الأخيرة تمكنوا أن يكونوا من بُناة الحضارة المعاصرة، إسهاماتهم في العلوم والآداب والفنون كركن ركين من بنيان الحضارة القائمة.”
وتبعا لذلك يطرح السؤال الكبير كيف يمكن مواجهة الصهيونية دون مواجهة “الحضارة” كلها؟ وكيف يمكن مواجهة الصهيونية دون مواجهة اليهود؟ للإجابة عن هذا السؤال انبرى منظرون ومفكرون وفلاسفة ولامسوا الإشكال العويص، منهم الأستاذ عبد السلام ياسين الذي ناقش القضية الفلسطينية بعمق كبير وأفرد لها كتابا خاصا وهو سنة الله فضلا عن تناولها في مجموع كتاباته، وهكذا وبعد أن عرف بالصهيونية والديانة اليهودية واليهود، تحدث عن نقطة قوتهم في الكتاب، المتمثلة في التحدي الذي يشكلونه للإسلام والتي تتمثل في قدرتهم على تقمص الأجسام الجماعية للأمم والعالم. وهم بعد تقمص أمريكا في طريقهم إلى تقمص أوربا والعالم، فالتحدي أمام الأمة الإسلامية ليوم الفصال يوم وعد الآخرة ليس محاربة العالم بعد أن تكون الروح الصهيونية قد استولت عليه، لكن التحدي في كيفية استخلاص الجسوم الجاهلية يعني المجتمعات الغربية من هذه الروح. والأستاذ المجدد إذ يورد لفظ التحدي فهو يشير إلى حجم الخصم المتمدد والتمعن في نهضته ليزرع الأمل في الأمة الإسلامية في الاستعداد لغد الإسلام، وهو نفس ما تناوله الكاتب أنور الهواري في مقاله “شمس الشرق تشرق من غزة” الذي جاء فيه: “اليهود هم أفضل من نتعلم من تجربتهم في هذا النضال، فعندما سقطت غرناطة آخر مراكز الإسلام في شبه الجزيرة الإيبيرية 1492م كانت الكاثوليكية المنتصرة تسعى سعيها لاجتثاث اليهود والمسلمين معًا، وبعد خمسة قرون أصبحوا مكونًا أصيلًا في بنية الحضارة الإنسانية، بحيث بات من المستحيل إلحاق الضرر بهم دون إلحاق الضرر بالحضارة ذاتها”.
وحيث إن الإمام المجدد عبدالسلام ياسين حين كتب هذه الجملة “ليس أن نحارب العالم… و لكن أن نستخلص هذه الجسوم من تلك الروح ” يكون قد طرح منهجا متكاملا يتناول تصورا استراتيجيا كفيلا بحسم الصراع الصعب وهو ينسجم مع مشروع الإمام التجديدي الكبير الذي يقترحه على العالم من خلال مشروع ورؤية متكاملة يتوخى منها تغيير الإنسان وتغيير التاريخ وتغيير العالم ولهذا فهو يحذر من أن تدفع الأحداث الكبرى المركزة على المنطقة العربية والإسلامية بأن يتقوقع أبناء الحركة الإسلامية كدعوة أو مقاومة اليوم وكدولة غدا خارج النظام العالمي ولكن بالعمل الميداني والفكري والتواصلي وطرح النموذج الذي يجيب عن أسئلة العصر حتى يتم استخلاص تلك المجتمعات والأنظمة من قبضة الصهيونية ولهذا فهو يدعو إلى فاعلية تشبه فاعليتهم – شكلا- والذين نهضوا بعد مئات السنين من الركود بعدما كانوا خارج التاريخ، فاعلية تشير لبحث الطرائق الفكرية والعملية الممكنة والبحث عن تلك الروح التي تشبه شكلا الروح التي دفعت بهم نحو العالمية، وتختلف معها مضمونا، ولهذا فقد وضع الأستاذ عبد السلام ياسين أصبعه على مكمن الداء والدواء وحدد الوجهة الاستراتيجية التي هي فك الارتباط والفصل بين الجسد الغربي وخصوصا الأمريكي والروح التي سكنته وهي الصهيونية. كيف سيتم ذلك؟
بدأ مسلسل الفصل وفك الارتباط بينهما بحلقته الأولى والمهمة ذات صبح، في يوم طويل على الصهاينة لم ينته لحد الساعة توقف عندها التاريخ، وتوقفت الشمس عن الغروب مثلما فعلت مع يوشع بن نون عليه السلام وفق تعبير أحد المحللين، فرغم أن الصهاينة وأحلافهم كابروا وفعلوا الجسر الدبلوماسي والجسر العسكري الجوي ودفعوا بمزيد من المعدات العسكرية وألقى الصهاينة ما لا يتصوره عقل من القنابل بكل أنواعها على قطاع غزة من أجل الحد من تمدد آثار ذلك اليوم فإن الأمر بقي دون جدوى بفعل فاعلية المقاومة الفلسطينيّة الباسلة وانسجام روايتهم التي تحكي مظلومين وصمود الشعب الفلسطيني، فقد حاول الصهاينة ربح الوقت وهم الذين اعتادوا شن الحروب السريعة، ولكن الوقت كان يمر عليهم طويلا، وكان الرأي العام العالمي يتألب عليهم، وامتلأت عواصم الغرب بالاحتجاج رغم القوانين المانعة المنصوص عليها، وتحركت ضدهم الجامعات الغربية التي عشش فيها سابقا الفكر الصهيوني، وتحرك الطلبة اليهود ضد الفعل الصهيوني، وتحركت احتجاجات اليهود داخل الكيان وتحركت المحكمة الجنائية الدولية، وتحركت الجمعية العامة للأمم المتحدة، واعترفت دول أوربية جديدة بدولة فلسطين، وتأجج الاستنكار الأخلاقي في العالم لتتشكل الصورة التي وعاها المفكرون بكون المعركة وبالقدر الذي ستكون في جزء منها عسكرية فإنها ستكون في جزء كبير منها معركة “فك الارتباط” وفصل الجسد عن الروح وستكون تبعا لذلك عملية فكرية وسياسية وإعلامية وحقوقية وأخلاقية وقيمية ساحتها العالم كله، يكون فيها العالم كله صديقا محتملا، كل العالم مجال لشرح رؤى الدعوة والمقاومة، وفي هذا الصدد يقول الأستاذ عبد السلام ياسين في كتابه سنة الله الصفحة 144: “وليس وعد الآخرة بالمكانة العظمى التي يعطيها القرآن إن كان صداما عسكريا فقط بل وعد الآخرة أن يجيء الحق المنزل في القرآن ليزهق الباطل، كل الباطل، بذهنيته وروحه وقوامه المادي، ويجيء الحق المنزل علينا المحفوظ برعاية الله تعالى وعنايته ليزهق باطل الجاهلية كل الباطل ظنه وحميته وتبرجه وحكمه وتزيينه الشيطاني، وإنها لكبيرة إلا أن يسدد الله ويؤيد ويبارك وينصر”. وقد أدرك الأستاذ المجدد رحمه الله أن هذه عملية كبيرة شاملة لكل الجوانب الممكنة يقول الأستاذ عبد السلام ياسين في كتابه “سنة الله” الصفحة 118: “…لا بد من فقه كل ذلك ووعيه سياسيا واقتصاديا وعلميا وصناعيا وثقافيا وعسكريا واستراتيجيا…”
وإن طوفان الأقصى وبالشكل الذي وقع، وبالشكل الذي تمدد به، قلب الصورة النمطية عن الشخص العربي المتشنج والمتسرع والملول وعن طريقة حكمه وتسييره للبلاد بطريقة الشيخ ومزاجه وبطريقة الخيمة خارج نطاق المؤسسات، فوجد نفسه أمام جيل جديد بعقلية جديدة انبعثت من واقع التجربة والألم ودرست الخصم على مهل وأكدت أنه في الوقت الذي انبطح فيه جانب من العقل العربي كان تتم صياغة وإعادة صياغة ذلك العقل وتدارك نقط الخلل فيه، ذلك أن اجتياز الجدار الأمني على غلاف غزة وتنفيذ المهمة العسكرية يشبه اجتياز خط بارليف لكن يتفوق عليه باستمراره الطبيعي وبامتداداته وارتداداته المستقبلية، بولادته كاملا غير مبثور كما بثر نصر 1973، يتفوق عبر العقلية التي تقوده، ميدانيا بتغيير تكتيك القتال ووسائله وإلحاق الخسائر العسكرية غير المسبوقة في الجنود والعتاد الصهيوني، والصمود الأسطوري رغم مرور أكثر من عشرة أشهر من القتال الضاري والحصار الخيالي، وتفاوضيا بالاستفادة من دروس أوسلو وكامب ديفيد وغيرهما، وإعلاميا عبر بث ما يصوره التوثيق الحربي وعبر الإعلام المحايد الذي بث الصورة الفظيعة لقتل الأطفال والنساء والشيوخ وهو ما يوحي بوجود نوعية جديدة من التكوين المتعدد الواجهات تعرف أن الوجهة الوحيدة هي التحرر الوطني، يقول الأستاذ عبد السلام ياسين في كتاب المنهاج النبوي الصفحة 345: “إن توفر الإرادة السياسية، وتجسدها في كتلة منظمة بقيادة مطاعة قوية، ثم اقتناع رجالها بالقضية التي من أجلها تشكلت، هي العوامل الأساسية لإحداث تغيير في المجتمعات”.
إن ظهور وتجدر المقاومة في غزة وتراكم تجربتها في الكفاح المسلح وفي دواليب التسيير وفي المفاوضات، وفي التدبير الداخلي لأجنحة العمل بمختلف الفصائل وخصوصا حركة حماس في غزة، واستفادتها من كل تجربة ومن كل خطأ بشكل تراكمي، أوجد قيادة حاولت الإجابة عن الأسئلة العالقة، فقد عملت الحركة على خلق حكم مدني بعيدا عن العسكرة والتشدد الديني، كما عملت على إشراك أسراها في دواليب التسيير وفي اتخاذ القرارات وهو ما يجعل الأسير مواكبا ومتشبثا بالأمل ويشعر بأنه في قلب المعركة، وهكذا نجد أن السيد السنوار لعب دورا كبيرا في مفاوضات جلعاد شاليط من السجن لتبرم تلك الصفقة التي خرج بموجبها 1027 أسيرا فلسطينيا من مختلف التوجهات السياسية ضمنهم قائد حماس الحالي السيد يحيى السنوار، ومنذ خروجه عام 2011، وجد غزة غير غزة قبل 25عاما، فعمل بجهد إلى جانب رفاقه لتحصين المكتسبات الكثيرة وتقوية المقاومة الفلسطينيّة عبر فهم العقلية الغزاوية خاصة والفلسطينية عامة ساعده في ذلك إلمامه بطريقة تفكير الكيان فعمل على جبر الهوة بين العسكري والسياسي، وفي هذا الصدد يقول الكاتب أحمد الدويري في مقال نشر في الجزيرة تحت عنوان: “خاوة… العالم كما يراه يحيى السنوار”: “أما رفيقه في السجن زاهر جبارين، فقال لنا إن السنوار لم يدرس الثقافة والفكر والسياسة الإسرائيلية فحسب، بل درس الدين اليهودي والنصوص التلموذية، وكان على اتصال دائم بالعالم من خلال القنوات التلفزيونية وتحديدا قناة الجزيرة، وأقبل على القراءة في مكتبات السجن التي تصل إليها الجرائد والصحف والكتب… ” وأدرك مكمن قوة الدولة في الكيان وعمل على وضع خطة لشكل الدولة أو الحركة التي يمكن أن تواجهها، يقول نفس الكاتب في نفس المقال: “يرى السنوار، بحسب باسم نعيم، أن التفرقة بين السياسي والعسكري لا تصلح لتفسير حالة المقاومة الفلسطينية، كما أن التفرقة بين المدني والعسكري لا تصلح لتفسير مجتمع الاحتلال الإسرائيلي. إن كلمة مقاوم تذيب هذه التفرقة، فالمقاومون جزء من الحياة المدنية والاجتماعية والسياسية للحركة، ويتابع نعيم قائلًا إن حماس لا تريد بناء جيش منفصل عن الشعب، بل أن تتوزع فكرة المقاومة في كل بيت فلسطيني، وبهذا لن يستطيع الاحتلال تصفية المقاومة بالقضاء على تنظيم أو فصيل.” ويضيف نفس الكاتب: “لذلك نجدنا مندفعين نحو القول إن عقل السنوار تفطن إلى أن جزءا رئيسيا من نجاح الاحتلال في الحفاظ على مكتسباته ومضاعفتها عبر العقود الماضية، كان في الدمج الكامل بين المدني والعسكري في المجتمع الإسرائيلي، ولذلك فقد حرص زعيم حماس على أن تكون بنية الحركة قريبة من شكل مجتمع الاحتلال. مع استلهام تجربة المسلمين التاريخية، خاصة أن مجتمعات الثغور والمرابطة، قريبة الشبه بمجتمع الفلسطينيين في غزة، وهي تلك البقاع القريبة من مناطق الصدام والصراع.” ويضيف نفس الكاتب :” كما بنى السنوار على إرث الشيخ أحمد ياسين في تفعيل أدوار المساجد، ومراكز القرآن، وعمل على تحسين علاقاته بقادة العشائر ومخاتير القطاع من أجل تعزيز التفاهم بين المقاومة والمواطنين، كما عمل على تحسين علاقته مع الفصائل المقاومة الفلسطينيّة وخصوصا فتح وعمل على دفع ديات لعائلات الضحايا إثر أحداث الانقسام الفلسطيني لخلق حاضنة شعبية مقاومة، وهو الأمر الذي أثبت نجاعة هائلة في التكتم على التخطيط لهجوم طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر، وفي التفاف الشعب حول المقاومة وتكرار ممثليه تأكيدهم على ولائهم للمقاومة رغم الإبادة والحصار”. ورغم إدراك القائد السنوار لنقط قوة الكيان فهو يدرك حجم تفكك البنية الاجتماعية له فقد نقل عن الطبيب يوفال بيتون الذي أجرى له العملية الجراحية عام2004 بعد أن أجرت معه قناة عبرية حوارا تحدث فيه عن الهدنة وإمكانيات إسرائيل النووية قال له شخصيا: “إن الكيان هش، وسأغزوكم خلال عشرين عاما بعد أن تتصاعد حدة الخلاف بين العلمانيين والمتدينين” وفق ما أورده نفس الكاتب.
لقد أحدث الطوفان انقلابا جذريا على المستوى الجيوسياسي وعلى مستوى العقل الغربي وبدأ مسلسل فك الارتباط وفصل الروح عن الجسد، فقد أحدث عملية تحرير للضمير العالمي الذي كان رهينة لتراكمات التزوير والتضليل الذي بثته مناهج التربية والتعليم وماكينات الإعلام الصهيوني المتحكمة في مفاصل الإدارة والحكم، بعدما تعرف العالم على حقيقة الصهيونية ذات النظرة العنصرية الشوفينية الضيقة التي لا تعرف للإنسان قيمة ولا معنى، وأصبح العالم يدرك أن الصهيونية ليست خطرا على غزة فقط أو فلسطين أو العرب والمسلمين أو اليهود أنفسهم بل خطرا على الإنسانية كلها وقيم الديموقراطية، وأدرك الجميع أن القيم الأصيلة لا وجود لها في قاموس الصهيونية.
ولعل من أهم تداعيات طوفان الأقصى هو تمييز الرأي العام العالمي بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية وهو ما حاول الصهاينة تعمد الخلط بينهما ردحا طويلا من الزمن، فقد كانت تهمة معاداة السامية سيفا مصلتا على كل من سولت له نفسه انتقاد السياسة الصهيونية وفعلت أفعال محاكم التفتيش في القرون الوسطى، وهكذا حين تعالت الاحتجاجات ضد المجازر الشنيعة في غزة، ودعا الأمين العام للأمم المتحدة غوتيرش إلى ضرورة وقف النار لحماية المدنيين، وصف الممثل الصهيوني في مجلس الأمن على الفور موقفه بأنه معاد للسامية ولكن دون جدوى. ويعتبر هذا مثالا واضحا على استراتيجية الخلط لتحويل الانتباه والضغط في اتجاه الانتقادات المشروعة والعادلة لسياسة الكيان، وقد أورد الكاتب جوزيف دانا في مقال له تحت عنوان: “خلط مسيء بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية” أن المفكر اليهودي آفي شلايم ميز بين الأمرين حيث جاء في مقاله: “و قد تحدث البروفيسور آفي شلايم وهو من العلماء الإسرائيليين المعتدلين المعروفين باسم المؤرخين الجدد عن الاختلافات بين معاداة الصهيونية في مقطع فيديو حديث انتشر عبر الإنترنت وأشار إلى أن معاداة السامية تعني كراهية اليهود لأنهم يهود أما معاداة الصهيونية فهي معارضة للأيديولوجية الصهيونية أو بشكل أكثر شيوعا، انتقاد سياسات محددة تتبعها الحكومة الإسرائيلية”.
إن العالم في مخاض وإن تداعيات الطوفان لن تستثني أحدا ومنها زيادة على ما ذكر أعلاه فإن الصهيونية إذا انهزمت في فلسطين بمناسبة طوفان الأقصى فهذا يعني عودة الصهيونية إلى ديارها في أوروبا والغرب وهو ما يعني عودة التاريخ لفترة ما قبل 1948 وهو ما يعني مواجهة مع تاريخهم، وفي هذا الصدد تقول الكاتبة والصحفية سوسن الأبطح في مقال لها تحت عنوان: “الصهيونية… درع أوربا”: “لماذا يهتزّ الغرب وينقسم ويتبلبل أمام ما يحدث في غزة؟ هل هو عدد الضحايا القياسي؟ ليس فقط بالتأكيد. ففي إثيوبيا، وقبل سنوات قليلة، قتل أكثر من 100 ألف إنسان، ولم يعن بهم أحد، وفي السودان يموت الناس يومياً، ولا من يسأل. نحن كأوروبيين ليست فلسطين التي تعنينا، بل تأثيرها على مجتمعاتنا الداخلية. ثمة خشية من أن تعيدنا الأحداث هناك إلى ما قبل عام 1945”. هذا الكلام للمؤرخ الفرنسي المعروف هنري لورانس، خلال محاضرة ألقاها مؤخراً في «المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية» في باريس، يستحق أن يكتب بحروف من ذهب لصدقه وصراحته. فهو يشرح: “إن خطورة ما حصل في 7 أكتوبر أعادنا إلى مواجهة مع تاريخنا الذاتي”.
إن ما وقع الآن يذكر الجميع بعودة التاريخ، فكما أن الغرب الأوربي متخوف من ذلك فإن بناة الكيان الأوائل وحكماؤهم منهم المؤسس الكبير ابن غوريون كانوا على يقين تام من ذلك، فقد جاء في مقال للكاتب اللبناني حسن حمادة تحت عنوان: “بن غوريون، زوال إسرائيل حتمي… ومسألة وقت”: “يروي نحوم غولدمان (في كتابه المفارقة اليهودية) الوقائع ويصف بدقة الوضع النفسي لبن غوريون الذي خصّه بثقة لم يمنحها لأحد غيره، إذ جعل منه خزنة سره الخطير، سر أسراره. نظر إلى مشكى همه وقال له بالحرف: «اسمع يا ناحوم. لقد أصبحت على مشارف السبعين من عمري. فإن سألتني ما إذا كان سيتم دفني، إثر موتي، في دولة إسرائيل لقلت لك نعم. فبعد عشر سنوات أو عشرين سنة سيبقى هنالك دولة يهودية. ولكن إذا سألتني ما إذا كان ابني عاموس، الذي سيبلغ الخمسين من عمره في أواخر السنة الجارية (1956)، سيكون له الحظ بأن يدفن بعد موته في دولة يهودية فسوف أجيبك: 50/50»… قاطعه غولدمان مذعوراً : «كيف لك أن تنام على هذا التوقّع فيما أنت رئيس لحكومة إسرائيل؟!» فأجابه بعمق وهدوء من يحذر من الآتي: “من قال لك إنني أعرف ما هو النوم يا ناحوم”!؟
وهكذا صارت القضية الفلسطينية وفق الرواية الفلسيطينة التي تحكي معاناة شعب فلسطين لمدة 75 سنة تحت الاحتلال الصهيوني، تحكي قصة شعب الداخل وقضية اللاجئين وحصار غزة ومستوطنات الضفة الغربية وعبثية أوسلو وتدنيس المسجد الأقصى والتقسيم الزمني وتهويد القدس ومعاناة آلاف الأسرى، معروفة لدى الجيل الجديد، وفي هذا السياق تقول الكاتبة بهية حلاوي في مقال لها بعنوان: “طوفان الأقصى…خدمة القرن للجيل الجديد”: “يمكن القول إن إحدى أبرز الخسائر الاستراتيجية التي تكبدها العدو الإسرائيلي خلال طوفان الأقصى هي أنه قام بشرح القضية الفلسطينية من الألف إلى الياء للجيل الجديد حول العالم”. فالكيان وبسياسته العنصرية والوحشية تحصل وضعا دوليا غير مسبوق توازيا مع ما حققه الطوفان من الاستنزاف الذي يعيشه الكيان سواء منه البشري أو الاقتصادي أو الأخلاقي وتم إضعاف رصيده المعنوي والسياسي زيادة على الصدمة النفسية للمجتمع “الإسرائيلي” التي جعلت تخوف ابن غوريون الدفين وغيره بزوال الكيان حقيقة آتية لا مفر منها.
يقول الله تعالى في سورة المؤمنون الآية 26: فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ۙ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ۖ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۖ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (27) صدق الله العظيم والحمد لله رب.