لطالما عُقِدت مجالس في الأمم المتحدة لاستصدار قرارات تؤكد حق الشعب الفلسطيني في دولته، ولطالما عُقِدت مؤتمرات في الجامعة العربية لشجب جرائم الكيان الصهيوني، ولطالما أُبرِمَت اتفاقيات “سلام” لإنهاء معاناة الشعب الفلسطيني، لكن طيلة 75 سنة ظل المنتظم الدولي يلقي بظهره للحقوق الفلسطينية، كيف لا وهو الذي قدم هذا الشعب وأرضه قربانا للصهيونية اليهودية تكفيرا على ما اعتبره “هولوكست” في حق يهود أوروبا. ففي الوقت الذي كان الشعب الفلسطيني ينتظر تقرير مصيره مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948، تم الإعلان عن قيام “دولة إسرائيل” ورُفع علمها في مقر الأمم المتحدة، في المقابل دخلت القضية الفلسطينية مرحلة التصفية الممنهجة. ومنذ ذلك الحين والشعب الفلسطيني في قاعة انتظار يترقب، ولكن بدون جدوى إيقاف عربدة العصابات الصهيونية المسنودة من طرف المنتظم الدولي. وأمام هذا التواطؤ العالمي، احتُلَّت أرض فلسطين، واستبيح شعبها بكل أشكال المذابح والإبادة والتهجير والتقسيم والحصار، كما شُنَّت عليه الحروب تلو الحروب من أجل التأثير على ديمغرافيته وتحويله إلى أقلية يمكن تذويبها مع مرور الزمن. وعقب كل مجزرة كان يتعرض لها الشعب الفلسطيني، وعقب كل مؤتمر، وبعد كل اتفاقية، وأثناء كل محفل دولي، كان حكام الغرب المنافقون وحكام العرب المتخاذلون يقدمون أنفسهم باعتبارهم الوسيط المحايد الذي يروم حل الدولتين وتطبيق قرارات الأمم المتحدة. بالموازاة كان الكيان الصهيوني يترجم الصمت الدولي الغربي والخذلان الإقليمي العربي إلى إنجازات على الأرض حتى جعل فلسطين شعبين، شعب في الضفة الغربية وشعب في غزة، شعب مع أوسلو وشعب ضد أوسلو. ورغم هذا الوضع المُمَزِّقِ للوطن والمشتت للشعب الفلسطيني، لم تتوقف الآلة الإجرامية الصهيونية في تفتيت المفتت بنشر المستوطنات في الضفة، وتحويل قطاع غزة إلى أكبر سجن في العالم لا يسمح بزيارته إلا لطائرات F16 ودبابات الميركاڤا وما تحمله من قنابل مدمرة. وفي كل زيارة صهيونية همجية مدمرة كان الغرب يدعو لضبط النفس، وكانت الخارجيات العربية تدين وتندد وتشجب، في مسرحية هزلية متقنة ومتكاملة الأدوار. فما دام الإسرائيلي هو المتفوق، وما دامت الخسائر يتكبدها الفلسطيني، وما دام نهب الأراضي وتهويد المقدسات ماض على قدم وساق، وما دامت المقاومة محاصرة وطنيا وإقليميا دوليا فلا ضير بتخصيص بعض الماء والغاز والكهرباء والمواد الغذائية الأساسية لسجناء غزة، كما لا مانع من السماح ببعض المساعدات من قبل المفوضية الأوروبية وبعض الدول العربية، شريطة التحكم في مسارات إنفاقها.
غير أن معركة طوفان الأقصى قلبت كل المعادلة، فلم تعد أرض غزة وحدها مسرح الحرب، ولم يعد الإسرائيلي هو المبادر بالحرب لتحقيق أجندة مسبقة، ولم تعد الخسائر البشرية الجسيمة فقط في صفوف الفلسطينيين، كما لم تعد الحرب عن بعد بل دخلت المقاومة مع العدو في مواجهات من نقطة الصفر. ناهيك أن معركة طوفان الأقصى قد مكنت من مئات الأسرى، وكسرت كل الحواجز الأمنية التي أنفقت عليها إسرائيل مليارات الدولارات، وخصصت لها فيالق من جنود النخبة والاستخبارات المزودة بأحدث الأجهزة العالمية. لم تكن معركة طوفان الأقصى مجرد حرب، بل كانت لحظة فارقة في تاريخ الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، كما شكلت كاشفا لكل المواقف السياسية الغربية والعربية المقنعة. إن معركة طوفان الأقصى، إضافة لما خلفته من خسائر بشرية ومادية في صفوف العدو، وإضافة إلى توسيع أرض المعركة لتشمل الأراضي المحتلة، فإنها أحدثت زلزالا في العديد من الثوابت الاستراتيجية التي تعد عماد قيام وبقاء “إسرائيل“، والتي ندرجها كالآتي:
– أن معركة طوفان الأقصى أَذِنَت بسقوط كُلِّي لأسطورة الجيش الصهيوني الذي لا يقهر، فقد تابع العالم كيف كانت تتساقط جثت الجنود الصهاينة تترى، وكيف كانوا يستسلمون ويفضلون الأسر، وكيف كانوا يتخلصون من بذلاتهم العسكرية ويفرون.
– أن معركة طوفان الأقصى أعلنت عن سقوط مدوي لخرافة جهاز الموصاد الذي كان يجزم الكثير من المختصين أنه يحصي الأنفاس خارج فلسطين بله داخلها وبخاصة في قطاع غزة. لقد أضحى هذا الحهاز من فرط تعظيمه شبحا بإمكانه اختراق كل المنظومات إلى أن دخلت المقاومة عليهم الباب، واقتحمت أزيد من عشرة مواقع في غلاف غزة وسيطرت عليها بالكامل ليومين متتاليين، واستولت على العديد من الحواسيب والملفات الأمنية بعد اكتساح مكاتب الاستخبارات العسكرية الصهيونية، ما يعني أن المقاومة غنمت بنكا معتبرا من المعلومات على كل الأصعدة.
– أن معركة طوفان الأقصى نقلت عنوة الدول الغربية الكبرى من خطاب التهدئة المنافق إلى لغة الدعم المباشر للكيان الصهيوني الكاشفة، حيث تعهدت الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا الكيان الصهيوني بكل ما تحتاجه المعركة من سلاح وعتاد، ما يؤكد أن المعركة قد قلبت المعادلة وكشفت الوجه الحقيقي للغرب الذي طالما تظاهر بدور الوسيط الإنساني البريء.
– أن معركة طوفان الأقصى حركت الأسطول البحري العسكري الأمريكي، وهو فعل يَشِي بالعديد من الدلالات أقلها أن إسرائيل أصبحت عاجزة عن مواجهة الاستراتيجية الجديدة للمقاومة، وأنها غير واثقة بما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع في المنطقة. وهذا من الناحية الاستراتيجية أسقط مقولة إسرائيل حارسة الشرق الأوسط الكبير، فالأحرى أن تحرس كيانها الذي فشلت في تحقيقه.
– أن معركة طوفان الأقصى أثبتت بأن معظم الأنظمة العربية هي مجرد ملحقات في النظام الغربي الصهيوني بدليل اصطفافها تلقائيا إلى جانب المحتل المغتصب، ولم تنبس ببنت شفة اللهم تسويتها بين الجاني والضحية.
– أن معركة طوفان الأقصى أكدت وتؤكد أن أي رهان على الغرب والأنظمة العربية والمؤسسات الدولية لن يزيد القضية الفلسطينية إلا إقبارا، وأن المقاومة والتجديد المستمر لأساليبها ووسائلها هي الخيار الوحيد الضامن لبقاء مشروعية هذه القضية الإنسانية العادلة.
– أن معركة طوفان الأقصى عرت زيف مزاعم خدمة التطبيع للقضية الفلسطينية، وبينت أن الدول المطبعة إنما تقايض بسكوتها وتثمينها لجرائم المحتل على مصالح ضيقة الطبقة الحاكمة، وهي إخراج لبيع القضية من السر إلى العلن.
– أن معركة طوفان الأقصى تنبئ عن اقتراب موعد التحرير إذا ما توحدت الصفوف واشتعلت الجبهات وتحركت الساحات وتم إسناد المقاومة بكل أنواع الدعم من الجماهير العربية والإسلامية.
– أن معركة طوفان الأقصى أفقدت المستوطنين الصهاينة الأمن الوجودي، مثلما أفقدتهم الثقة في كيانهم وجيشهم، ما سيدفع العديد من الصهاينة إلى الهجرة المضادة. وهذا منطقي جدا لكل من يتابع التقدم المطرد لقوة المقاومة الفلسطينية وسلاحها، ما يضع فرضية دخول تل أبيب والقدس وباقي المدن المحتلة مسألة وقت.
– أن معركة طوفان الأقصى تزيدنا إيمانا ويقينا في وعد الله عباده بالنصر والتمكين ودخول المسجد الأقصى، وتشير إلى أن آخر ما تبقى للكيان الصهيوني هو حبل الناس فإن نحن زاوجنا بين قطع هذا الحبل الخارجي والمقاومة الداخلية عجلنا بتنزيل قدر الله المكتوب في اللوح المحفوظ.
وبهذا تكون معركة طوفان الأقصى قد فضحت ماضي الغرب والأنظمة العربية اللذان ساهما طيلة ردح من الزمن في نشأة الكيان الصهيوني وتقويته مقابل عروش وكراسي السلطة، كما كشفت عن زيف شعارات الحاضر المبنية على حقوق الإنسان والشرعية الدولية، إذ لا يمكن تفسير انحياز الغرب للكيان الصهيوني إلا بالنفاق والسقوط الأخلاقي. وفي الأخير نقول أن معركة طوفان الأقصى قد رسمت أفقا جديدا لمستقبل الأمة، وبددت كل السحب التي كانت تحجب مستقبل التحرر، وجلت الطريق نحو المسجد الأقصى.
فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا صدق الله العظيم.