لا شك أن ما تمر به أمتنا في هذه الآونة من آلام وجراح، مما وقع حديثا لإخواننا في تلك البقعة المباركة الطاهرة من الأرض لأمر شديد الإيلام، بل صعب! كان يستعصي على الروح تحمله. ألم كان يعتصر القلب في كل دقيقة وثانية لما يحدث لأمهاتنا وأخواتنا وأطفالنا وأهالينا في غزة الحبيبة، أرضنا المقدسة المسلمة، فلسطين العصية على أعداء الله. أعداء اجتمعوا من كل حزب وملّة للقضاء على تلك الثلة المباركة من المؤمنين، المحفوظة بإذن الله رغم عظم البلاء.
تابعنا ما يجري، لمدة 471 يوما بدت كأنها دهرا، بقلوب مكلومة، كنا نتساءل في كل لحظة وحين: ما العمل؟ ما الحيلة؟ وكيف يمكننا أن نصمد ونتحمل كل ما نراه ونسمعه من أخبار القتل والجرح والحرق والتشريد والحصار والتجويع…؟ غير أننا لم نفقد يقيننا في نصر الله تعالى للفئة الصالحة، ونحن نؤمن بأن الابتلاءات والمِحَن هي سنة الله في كونه، فكم مر على المسلمين من حقب سوداء وسنوات عجاف في عصور مختلفة؛ من زمن المغول إلى آلة الاستعمار وحروب التحرير؟ فكان النصر دائما وأبدا حليف أصحاب الحق حينما يظهر فيزهق الباطل، هي سنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير.
سبحان المولى عز وجل الذي جعل من الجهاد وبلاء الأعداء سببا وعقبة، تعود على من تحملهما وصبر وجاهد بالفوز العظيم والخير العميم. فبعد الثبات واليقين به عز وجل يكون النصر والفتح المبين في الدنيا والآخرة.
لكن كيف يتم ذلك؟ وكيف لنا نحن في مثل هذه الظروف، البعيدين عن ساحة الوغى أن نتحمل ونصبر؟ كيف نعيش وقت البلاء هنا والمصائب تصب هناك؟ كيف نكون سندا وقوة لإخواننا وأخواتنا المكلومين؟ هي تخبطات ومشاهد كثيرة مرت وتمر بخاطر كل منا.
نبحث عن إجابات، ونرتفع بنظرنا إلى هنالك؛ حيث كان ومرّ سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، فنجد الجهاد ركنا عظيما! الجهاد بكلِّيته مرادف للممانعة ولشدّة المواجهة مع أعداء الله، فيه جلدٌ وقوة تحمل لفترة زمنية يليها يقينا وحقا نصر عظيم وفتح كبير، لذا قيل “ما النصر إلا صبر ساعة”.
غزوة بدر خاضها ثلاثمئة واثنا عشر أو ثلاثمئة وثلاثة عشر فردا مؤمنا صادقا، في أهم وأكبر معركة فارقة بين الحق والباطل. قليلٌ يتحقق لهم النصر ويغلبوا ألفا من المتكبرين الذين تجبروا على المجاهدين المهاجرين المستضعفين؛ بالأذى الجسدي تارة، والسطو على ممتلكاتهم تارة أخرى، وإخراجهم من أرضهم ثالثة.. تأتي هذه المعركة على صورة بلاء شديد، عقبة عددية وفارق كبير ولكن يعقبه النصر، ويُخلد الحدث بأروع درس لاستحقاق المؤمنين المدد الإلهي بملائكة من عنده سبحانه!
نمضي عبر صفحات تاريخنا، فنلتقي بعد بدر ونصر بدر بامتحان آخر “صلح الحديبية”؛ اتفاق جل بنوده في ظاهرها لصالح كفّةِ الكفر، ظن فيه المسلمون آنذاك أن عليهم تحمل هذه البنود والشروط لعشر سنوات أخرى؛ سنون طويلة من الضيق والشدة، لكن فضل الله ورحمته تفوق كل تصور وخيال، فتأتيهم البشارة ويدخلون أم القرى فاتحين، بعد ثلاث سنوات فقط!
تتوالى المحطات الجهادية التي عاشها المسلمون بين الشدة والفرج، بين المحن والعقبات وبلوغ الهدف، أكيد مثل ما عاش إخواننا في غزة -وعشناه معهم- من كرب، حتى كاد يقول أحدنا بينه وبين ثنايا نفسه: متى نصر الله؟ … نتنهنه ثم نستمع لوعده عز وجل، يجيبنا ويعد الصامدين منا، المجاهدين في زمننا، كما وعد السابقين من أهل الخيرات: أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ، فتهدأ قلوبنا الهائجة وتنفرج أسارير أرواحنا تارة، ثم تنقبض أخرى لهول ما ترى، ويتعطف الكريم الرحيم اللطيف بقلوبنا الضعيفة، وتتنزل رحماته كالماء الزلال بعد عطش طويل.. حاشاه عز وجل أن يخذل زُمرة الخير هاته، التي استجابت لنداء الجهاد، هذا الركن الشديد، الذي بقدر عظمته جعل الله عز وجل جزاءه وآخر طريقه نصرا ورفعة للمقاومين ومعهم سائر الشعب المجاهد، وللشهداء الذين ارتقوا بعدما أناروا طريق الإنسانية وأدوا ضريبة الحق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة مئة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض» [رواه البخاري (2790)].
وروى مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يَا أَبَا سَعِيدٍ، مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ)، فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ، فَقَالَ: أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ، فَفَعَلَ، ثُمَّ قَالَ: (وَأُخْرَى يُرْفَعُ بِهَا الْعَبْدُ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)، قَالَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ).
في غزوة مؤتة ودّع حبيب الله عليه الصلاة والسلام قُرة العين أسامة بن زيد وحِبا من آل بيته العم جعفر بن أبي طالب ثم الصحابي الجليل عبد الله بن رواحة، رضي الله عنهم أجمعين، هم من عيّن ثلاثة قادة بالترتيب. هل زج بهم – حاشاه – عليه الصلاة والسلام وبثلاثة آلاف من المؤمنين في معركة ضد مئتي ألفا من عمالقة ذلك الزمان من الروم؟ أم أنه صلى الله عليه وسلم يلقننا أن السبيل للعزة هو في اقتحام باب الجهاد؟ بهذا اليقين وبفضل من الله، عكس الحسابات المادية والتوقعات لم يستشهد في تلك المعركة إلا العدد القليل؛ اثني عشر مجاهدا، ليعود الجيش من مؤتة سالما، رغم مقتل القادة الثلاثة.
بعد مؤتة بسنة واحدة، يجهز عليه الصلاة والسلام جيشا قوامه ثلاثة آلاف مجاهد، وقد انخرط كل المؤمنين والمؤمنات لتجهيز العدة، فكان السباق للبذل برهان صدق الصادقين؛ جهز سيدنا عثمان بن عفان ثلاثمائة بعير، ووهب سيدنا أبو بكر كل ماله، وعمر نصفه، وهكذا إلى ضعفاء وفقراء المسلمين الذين جادوا هم أيضا بما عندهم، منهم من لم يجدوا مالا فأعطوا تمرا، وجاء الوحي ليثمّن وليعظِّم عطاءهم وليقرع المنافقين المستهزئين: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (التوبة: 79).
نعم أول الجهاد بذل بالمال وإعداد العدة، قال تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (الحج: 40)، وهذا ما علينا فعله في هذه المرحلة نحن أيضا؛ نصرةً وبذلا وتأدية واجب لإخواننا، وكلها أوجه ومقدمات للجهاد.
كانت العقبات كثيرة وبأوجه وأشكال عديدة، فقد كانت تبوك محطة جهادية في صيف شديد الحر، كلها عناء ومشقة. لم يكد الصحابة رضي الله عنهم يجدوا في تلك الصحراء في ذلك الوقت الحار العسير ماء ليشربوه أو زادا ليقتاتوا به، هنا يفضح الله المنافقين بقلة صبرهم وضعف همّتهم ودافعهم وليُمحَّص الجمع، لتكون الغلبة للمؤمنين الصادقين، وقد كفاهم سبحانه اللطيف بعباده عناء القتال بعد كل هاته المشقات، وليقذف الرعب في عدوهم بعد جوع وعطش وعناء… فكان النصر تماما على شكل وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا ۖ نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ (الصف: 13).
هكذا عاش الصحابة رضوان الله عليهم مع الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام من معركة إلى معركة، من جهاد إلى آخر، كل حدث يأتي في صورة عقبات وامتحانات؛ فيصبروا ويوروا الله من أنفسهم خيرا وعزما ويقينا، فتتنزل الرحمات والبركات ويأتي النصر بأشكال مختلفة مغلفة بألطافه عز وجل، يحفظ به الله صف المؤمنين ويثبتهم على طريق الحق.
هكذا حال غزة اليوم، أرانا الكبير المتعال نصرا يكاد يكون مستحيلا بموازين الدنيا، لكنه بعين اليقين وبعين القرآن العظيم نتيجة حتمية لعمل ثلة صدقت الله فصدقها وأنجز لها وعده، ولا نراه إلا مقدمة وباعثا وسببا للتمكين لدينه سبحانه وتعالى وليعيد المجد لأمة رسوله عليه الصلاة والسلام.
نعم هي بداية ومخاض صعب مؤلم بالنظر لمخلفاته، يهون إن شاء الله تعالى بالذكر الكثير، وباليقين في موعوده سبحانه، وبالدعاء والتضرع، وبالاندماج الفعّال والتوحد في ساحة الجهاد وإعداد العدة للنصر؛ عُدّة الرجال والنساء الصادقين، العاملين للانخراط في هذه المعركة الكونية ضد الباطل وأذنابه.
وأول معركة يجب أن نخوضها نحن هي ضد “العجز” و”الجمود”، فلنبادر لإيقاظ هاته الأمة، نحتاج أمة قوية حرة، تمسح من عقلها التقاسيم الجغرافية التي فرضها عليها أعداؤنا، واعية بقدرتها على دفع الأذى، على الحراك حتى لو كان أوله حبوًا، حاملة مشعل التغيير والجهاد؛ جهادِ لمِّ الشمل، لتكون أولًا أمة واحدة ولتدفع الظلم عن كل فرد مسلم فيها.
غزة الآن هي الباعث، هي الحافز، ولكن لمعركة الصحوة أشكال يجب أن ننخرط فيها ونخوضها بقوة ويقين واستبشار بفتح مبين وعدا من الله الحق.