بذل شياطين الإنس والجن كل ما في وسعهم كي يحرموننا أجمل وأسعد لحظات الحياة، تلك التي تكون لما يقبل العبد على مولاه في صلاته، فتخضع جوارحه ويخشع قلبه، ويسبح في مناجاة خالقه، ويطرح همومه كلها بين يديه، ويهيم في حب مولاه.. مشاعر سامية وروحانية عالية كلما حرمها الإنسان إلا واستثقل الصلاة وعدها واجبا غير مرغوب فيه، يود التخلص منها بسرعة البرق حتى أنه قد لا يعي ما يقول ولا يعرف أحيانا حتى كم ركعة صلى. قال تعالى: وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَوٰةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلْخَٰشِعِينَ (البقرة، 45).
ما كان للصلاة أن تكون ثقيلة لو أن كل واحد منا طرح على نفسه أسئلة ثلاثة وأجاب عنها إجابة الموقن بها: من خلقني؟ ولم خلقني؟ وما مصيري بعد الموت؟ هذه الأسئلة المحورية التي ترسم لنا سبل السير في هذه الحياة الدنيا، وتجنبنا التيه والضلال، والانشغال بما لم نخلق لأجله؛ كفيلة بأن تعرفنا قيمة الصلاة ومكانتها.
ولو استطاع الإنسان الإجابة عن السؤال الأول فقط لعد الصلاة هدية باهظة الثمن ومغنما يحسد عليه فلا يستطيع التفريط فيه. من خلقني؟ خالقي يشهد الكون بأسره على عظمته وجلال قدره من الذرة إلى المجرة، الكل ينطق بجبروته ويسبح بحمده، والمتأمل في بديع صنعه يتسمر مكانه مذهولا مشدوها من دقة خلق الخالق وإتقان صنعه سبحانه، سواء في تركيبة الإنسان نفسه وكيفية اشتغال خلاياه، أو في كيفية إنبات النبات واختلاف ألوانه وأشكاله، أو في طريقة عيش الحشرات والحيوانات والأسماك.. أوفي دوران الكواكب ومواقع النجوم وأحجامها وأبعادها.. لا يسعنا أمام كل هذا إلا أن نقف خاشعين خاضعين بين يدي الباري سبحانه، ونود لو أننا استطعنا أكثر من السجود وتعفير الجبين في التراب لنعبر به عن مدى عظمته سبحانه وذلتنا، وقوته وضعفنا، وكماله ونقصنا.. لفعلناه، وصدق سبحانه إذ قال: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ (الزمر، 67).
هذا العظيم الذي تذهل العقول وتحار الأفهام في إدراك قدسيته، يتودد إلينا ويفرح لتوبتنا كما تفرح الأم بولدها، ويفتح لنا باب مناجاته في الليل والنهار، ويقبل علينا بوجهه الكريم، فعن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الله مقبلا على العبد في صلاته، ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه انصرف عنه» (مسند الإمام أحمد)، سبحانك ما أكرمك من إله عظيم جواد كريم. ألا نفرح بهذه العطية فنصلي صلاة تليق بمقام جلاله ونشكره على جزيل عطاياه! ألا ننعم بهذه المكرمة الربانية، وهذا الاصطفاء الذي خصنا به سبحانه دون سائر مخلوقاته ! ألا نجاهد هذه النفس الأمارة بالسوء لإبعاد الوساوس ما استطعنا، ونستغفر المولى بعد كل صلاة ليجبر عثراتنا، وندعوه كي يثبت قلوبنا!..
يا فرحة ويا سعادة من استشعر هذه المعاني، وكانت صلاته مرقاة تنتشله من وحل البعد والغفلة عن الله لتدخله إلى حضرة المولى الكريم، فيأنس بمناجاته ويسعد بالقرب منه، ويخشع بين يديه. ذلك عنوان الفلاح، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (المؤمنون، 1-2)؛ فازوا بالله، فما أعظمه من فوز وما أجله من فلاح. وكم حثنا سيد الخاشعين وإمام المنيبين على ذلك وهو الذي كان يعد الصلاة قرة عينه وملاذه، يستريح بها ويأنس فيها بخالقه، بل كان صلى الله عليه وسلم أخشع ما يكون في الصلاة. عن عبد الله بن الشخير قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء» (سنن أبي داود).
على خطاه سار الصحب الكرام والتابعين الأبرار وصالحي الأمة الأطهار، وكل من عرف وظيفته الحقيقية في هذا الكون ومآله بعد الموت إلا ويستمتع بالصلاة التي تصله بربه وتقربه من مولاه. قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) (الذاريات).
العبادة لا يقصد بها الصلاة فقط، بل كل ما يقوم به الإنسان من أعمال في هذه الحياة الدنيا تعد عبادة مادام العبد يطيع فيها ربه ويعظمه ويجتنب نواهيه، وإنها لمسؤولية جسيمة، وسهلة على من سهلها الله عليه، لذا فالصلاة هي الزاد والمدد في تخفيف عناء ومشاق الحياة الدنيا بكل تكاليفها، وهي الدالة على الرشد والصلاح، قال تعالى: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ (العنكبوت، 45)، وبالتالي فإنه من الحماقة بمكان أن نسرع في الصلاة خوفا من فوات رزق أو مصلحة ما، وحوائجنا كلها بيد من لم نحسن خطابه، وهو وحده القادر على قضائها، بل إنه سبحانه يجازينا أحسن الجزاء يوم نلقاه يوم لا ينفع مال ولا بنون.
رزقني الله وإياكم أحبتي قوة نواجه بها النفس والشيطان، وقدرة على طرد الوساوس لنصلي صلاة تليق بجلال الله وجبروته. آمين والحمد لله رب العالمين.