في لحظة كانت فيها الأعناق تشرئب لرؤية هذا القادم من البيداء تسبقه أنواره، كانت الأقدار الإلهية تعد لسننه الكونية أن تمر كما مر موكب الحبيب المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه رفقة الصديق رضي الله عنه وتستقر في وجدان المحبين.
لقد أضاء من يثرب كل شيء فكانت المدينة المنورة، ولئن تنورت الأعين بالرؤية فقد تنورت القلوب بالمحبة وتنورت الأرواح بأسرار لا يعلمها إلا الله.
في كل منا مدينة تحتاج أن تقف عندها قصواء الحبيب وتستقر حتى يبنى مسجدها، فإن سكن الحبيب قلبك وأصعدته أعلى طبقاته واحترست ألا تؤذيه في أمته وأكرمت قِراه وأكبرت أحبابه وأرحت باله فيهم، فقد اقتربت بشارة المحراب.
لا تحزن إن الله معنا
بداية السير صحبة ومعية وخلوة تطرد فيها مخاوفك.
صحبة سيدنا رسول الله أحدثت الأمان لسيدنا أبي بكر الصديق وكشفت له حقيقة المعية.
نحتاج إلى من يطمئننا بين الفينة والأخرى أن الله معنا لغفلة تصيب القلب المتلكئ في الذكر. نحتاج إلى يد رحيمة وكيلة الله الرحمن لتصب الرحمة على دواخلنا المبعثرة. نحتاج إلى أن نخلو بالله لنكون مع الله، فما يخالج أنفسنا يشتت الذهن و يربك السير .
أيام وليال تصحب فيها الحبيب المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه بما هي رباط تنتظر فيه الصلاة بعد الصلاة والوصال بعد الوصال، تلقي بقلبك بين يدي الحبيب ليطهره بنور الصلاة عليه حتى يليق بالدخول على حضرة القدوس. تطرد الحزن لأنه عقبة عظيمة في السلوك. لا تحزن. الصلاة على النبي سعادة غامرة. فمن صلى على سيدنا محمد صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا.
الحزن بئر عميقة إن استسلمت له بقيت عالقا فيك، تقلب الصفحات اليائسة وتستدعي الأحداث الأليمة لتزيد من وعكة روحك وتزيد في عرجها وهي المنكسرة.
طبب نفسك بكثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا، فإن روحه حاضرة كلما ناديته بقلبك.
لا تكون معية الله ويكون معها حزن. رب محنة في طيها منحة.
تغادر كهفك وتقتفي أثر الحبيب في سيرك، فإن الاتباع أمان لك من التيه. هو صراط مستقيم تهجر فيه كل المشوشات وتحذر من كلاليب النفس والأغيار بعدما خبرت بالتجربة أن الخلق حجاب ونفسك عذاب. وجهتك الله ولا أحد سواه، وحيثما وليت فثم وجه الله، فقد خلقت الأرض لتحمل أقدامك وخلقت السماء لتحمل قلبك وتحت عرش الرحمن معلقة قناديل النور فهل من زائر يبغي الوصال.
خرج الصديق يفدي الحبيب من أمامه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله. انظر إلى هذا الموقف العجيب الذي أسفرت عنه الصحبة المباركة؛ العين الحذرة، والقلب المتقد، والإقدام منقطع النظير لحماية الدعوة بكل ما أوتي المحب من قوة… القلب إذا أحب بصدق بذل كل ما يستطيع، فلا يقاس القرب بالمسافات وإنما بالحب داخل القلوب، فكم من خطوة بدت لنا بعيدة وليس بيننا وبينها سوى رمشة عين، وكم من أمكنة سبقت أرواحنا إليها قبل أن نحمل أقدامنا من الأرض.
السير سير القلوب.
الهجرة تقاسم حقيقي لا أنانية فيه. تقاسمْ أفكارك ولا تحتفظ بها لنفسك فإن نجاحا نحتفي به مجتمعين لا يقاس أمام نجاح فرد خطط منذ البداية ليفوز لوحده.
الصديق رضي الله عنه تخلص من كل ما يثقل سيره وترك لأهله الله ورسوله فنال بذلك المفاتيح كلها.
صدقه اقتحم قلوب أسرته فسلمت له. تذكر موقف السيدة أسماء وهي تحتال لجدها لتسكت عطفة أبوية جامحة، وكان حقا لها أن تبكي الفراق وقلة ذات اليد.
الصدق يحفر في القلوب طريقا لا نهاية له.
لكل سير محطة وصول
فانظر من أين تتزود لرحلة توصلك إلى الله ورسوله. واحذر أن تكون راحلتك عصية عليك فإن الطريق لا يخلو من مفاوز ومطبات.
وأنت على مشارف مدينتك ستستقبلك الوفود فرحة بوصولك، لم تكن الطريق محفوفة بالورود، لم تكن هجرة سهلة إذ تخليت فيها عنك وضربت كبد صحرائك، لكنك ارتويت من واحات المحبة الصادقة وارفة الظلال عظيمة الثمار فذهب جوعك وانطفأ ظمؤك واسترجعت بعضا مما تفلت منك، ثم ها أنت تدرك بعد كثير من الوقت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شفيع الدنيا والآخرة، إذ به تقربت وتشفعت فوجدت بركة روحه تلامس قلبك وكأنما يمد لك يده الشريفة لتقوم قومتك، إذ لا يليق بك الانكفاء وقد وهبك الله ما يبحث عنه غيرك.
سيأتي يوم تمشي فيه بين الناس بنور الله، سينتهي كل ما التصق بالقلب وعطل سيرك، لا عليك، لا تحزن مرة أخرى وأسعد قلبك بالحبيب صلوات ربي وسلامه عليه. اركب معه قصواء الشوق حتى يبزغ فجرك، فإن المواعيد قريبة ونخيل مدينتك تبدو جرائده من بعيد. اصحب من لا يحزن قلبك. وسلم القوس باريها وانتظر نداء “ادخلوها بسلام آمنين”.