ضفاف | 8 | لا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوةٍ أنكاثا!

Cover Image for ضفاف | 8 | لا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوةٍ أنكاثا!
نشر بتاريخ

أهلا رمضان.. أأخطأت في العنوان؟ أم أن الحلقة تأخرت حتى فات الأوان؟ أم أن في الأمر حكمة وبيان؟

مرت قرابة الشهر على رحيل شهر رمضان المبارك، بعدما عشنا في ظله لحظات إيمانية وأجواء ربانية، بعد شهر ونيف من انصرامه، ماذا بقي من نفحاته؟ وكيف نحافظ على استدامة همتنا وإقبالنا على ربنا فيه؟

من أهم مفاتيح الثبات على عهود رمضان؛ وضع برنامج لعمل اليوم والليلة، يحافظ به المؤمن على ورد لازم، فالأوراد أوتاد.

إشارة

روى ابن الجوزي أن أحد الأغنياء كان كثير العبادة، فطال عليه الأمد فعصى ربه. فما زالت نعمته ولا تغيرت حاله، فقال: يا رب تبدلت طاعتي وما تغيرت نعمتك؟ فهتف به هاتف في منامه: يا هذا لأيام الوصال عندنا حرمة، حفظناها نحن وضيعتها أنت.

جوامع الكلم

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث على المداومة على الأعمال، يفعل ذلك ويأمر به أصحابه حتى وإن كان العمل يسيرا قليلا، إذ العبرة باستدامة العمل وتثبيته، فقد روى البخاري في صحيحه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أحب الأعمال إلى الله الذي يدوم عليه صاحبه”.

وداوم الصحابة الكرام على الأوراد حتى في أشد حالاتهم، فـ“عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن فاطمة الزهراء عليها السلام أتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادما فقال: ألا أخبرك ما هو خير لك منه؟ تسبحين الله عند منامك ثلاثا وثلاثين، وتحمدين الله ثلاثا وثلاثين، وتكبرين الله أربعا وثلاثين”، ثم قال سفيان: إحداهن أربع وثلاثون، فما تركتها بعد.

وقد كان من جوامع دعائه صلى الله عليه وسلم: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ”. فعن شَدَّاد بْن أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا أَنْ نَقُولَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَأَسْأَلُكَ عَزِيمَةَ الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ”.

قال ابن القيم: “فإن كمال العبد بالعزيمة والثبات، فمن لم يكن له عزيمة فهو ناقص، ومن كانت له عزيمة ولكن لا ثبات له عليها فهو ناقص، فإذا انضمَّ الثبات إلى العزيمة أثمر كلَّ مقام شريف وحال كامل”.

إشارة

قال الحافظ ابن حجر: ما أكثر من يرجع أثناء الطريق أو ينقطع، فإن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذينَ آمَنوا بِالقَولِ الثّابِتِ فِي الحَياةِ الدُّنيا وَفِي الآخِرَةِ.

اللهم إنا نسألك الثبات على الأمر والعزيمة على الرشد.

علمتني اللغة

تعلمت أن الأفعال على ضربين: لازم ومتعدّ، وأفعال العباد على قسمين، فاللازم ما تكون بركاته على صاحبه مقصورة، وهو نقص دون كمال.

لكنني تعلمت منه اللزوم والملازمة والالتزام، لأجعل من النقص كمالا، والعرب تقول: رجل لَزِمَة: يلزم الشيء فلا يفارقه، ومنه تعلمت: أن الذكر ورد لازم وجلوس للذكر عازم، وملازمة الذكر تزيل الْوَقْرَ عَنِ الْأَسْمَاعِ وَالْبَكَمَ عَنِ الْأَلْسُنِ وَبها تَنْقَشِعُ الظُّلْمَةُ عَنِ الْأَبْصَارِ، وَهُوَ بَابُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ الْمَفْتُوحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِهِ مَا لَمْ يُغْلِقْهُ الْعَبْدُ بِغَفْلَتِهِ، كما يقول ابن القيم رحمه الله. وإنما الحلاوة والسعادة والتوفيق والتسديد، يتفقدها أهل الله في ثلاث: ملازمة الصلاة والذكر وقراءة القرآن، فإن وجدوها، وإلا علموا أن الباب مغلق، كما يقول الحسن البصري رحمه الله. ومنه تعلمت، لزوم الصحبة والجماعة، وملازمة المسجد، فإن للمساجد أوتادا الملائكة جلساؤهم إن غابوا افتقدوهم، وإن كانوا في حاجة أعانوهم على قضائها، كما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وتعلمت منه أيضا الإصرار والاستمرار والاستبشار.

إذا مرضنا تداوينا بذكركمُ

ونترك الذكرَ أحياناً فننتكسُ

شذرات شعرية

كن رابط الجأش وارفع راية الأملِ

وسِر إلى الله في جــدٍّ بــلا هَزَلِ

وإنْ شَعَــرتَ بنقصٍ فيــك تعـــرفه

فَـــغَذِّ روحَــكَ بالقــرآن واكـتمِــل

واعطف على الروح وارحمها فإنْ ضَعُفَت

فقـــوّها واستعنْ بالله وابتهــل

وحــارب النفــس وامنعها غوايتها

فالنفس تهوى الذي يدعو إلى الزلل

تذكرة الختام

يقول تعالى: وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنۢ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثًا (النحل، 92).

نقْض الغزل تعبير عن تضييع رصيد الطاعات من الثواب والحسنات. نقضَ غزلَ إيمانه وعهدِه مع الله من سارع إلى المسجد لأداء الصلوات المكتوبة محافظا على نوافلها ورواتبها خلال رمضان، ثم أعرض بعده عن نداء “حي على الفلاح”، ولم تعدِ “الصلاة خيرا من النوم”.

نقض غزله وخرّب بيت إيمانه من هجر كتاب ربه، وهو الذي ختمه ختمات خلال رمضان.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمِل عملا ثبته وداوم عليه، فلا نبات لشجرة الإيمان إلا بثبيت الطاعات. وإن خير الأعمال أدومها، ولو قـلَّ.