ضفاف | 7 | وإذا مرضت فهو يشفين

Cover Image for ضفاف | 7 | وإذا مرضت فهو يشفين
نشر بتاريخ

ما أنعم الله على عبده  **  بنعمة أوفى من العافيه

وكل من عُوفيَ في جسمه  **  فإنه في عيشة راضيه

أهلا بكم في حلقة جديدة من ضفاف.

كثيرون هم أولئك الذين يحصرون تأويلهم للمرض بين تطهير صاحبه من الذنوب والخطايا أو التعجيل له بالعقاب على تقصيره وتماديه في ظلم نفسه وغيره. لكنْ قليلون هم أولئك الذين يستحضرون أن المرض هو فرصة تطوى فيها مسافات السير والسلوك إلى الله.

يعرج المرض بصاحبه الصابر المحتسب إلى مقام الافتقار إلى الله، وما أجَلَّهُ وأعظمه من مقام! يشعرك المرض بالعجز والضعف، فيخرجك من بيضة استعلائك واستغنائك بنفسك عن الله سبحانه… في الخلوة كان الأولياء السالكون يبحثون عن الأنس بالله، وعلى فراش المرض يتفضل ربنا العلي القدير أن يكون هو كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه عند المريض، ألم تسمع قوله تعالى في الحديث القدسي: ”إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يقولُ يَومَ القِيامَةِ: يا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قالَ: يا رَبِّ كيفَ أعُودُكَ؟ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ، قالَ: أما عَلِمْتَ أنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أما عَلِمْتَ أنَّكَ لو عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟“.

المرض محنة.. وعند أولي الألباب منحة..

يحكى أن

رجله في الزيت وقلبه مع الله

طلب الوليد بن عبد الملك من عروة زيارته في دمشق، فتجهز للسفر وأخذ أحد أولاده معه وتوجه إلى الشام، وفي الطريق أصيب بمرض في رجله وأخذ المرض يشتد عليه ويشتد حتى أنه دخل دمشق محمولاً لا قدرة له على المشي.

انزعج الوليد بن عبد الملك حينما رأى ضيفه يدخل عليه بهذه الصورة.. فجمع له أمهر الأطباء لمعالجته، فاجتمع الأطباء وقرروا أن لا علاج إلا بتر رجله من الساق.

حزن لذلك الوليد واغتم ولسان حاله يقول: (كيف يخرج ضيفي من عند أهله بصحة وعافية وأعيده لهم أعرجا؟)  لكن الأطباء أكدوا أنه لا علاج له إلا ذلك وإلا مات من مرضه… فأخبروا عروة بقرار الأطباء.. فلم يزد على أن قال: (اللهم لك الحمد).

اجتمع الأطباء على عروة وقالوا له: اشرب كأسًا من الخمر حتى تفقد شعورك.. فأبى مستنكرًا ذلك وقال: كيف أشربها وقد حرمها الله في كتابه؟! ولكن دعوني أصلي فإذا سجدت فشأنكم وما تريدون.

فقام يصلي وتركوه حتى سجد.. فكشفوا عن ساقه ثم قطعوها وفصلوها عن جسده وهو ساجد لم يحرك ساكنًا، وكان الدم ينزف بغزارة فأحضروا زيتًا مغليًا وسكبوه على ساقه ليقف النزيف.. فلم يحتمل عروة حرارة الزيت فأغمي عليه.

وفي هذه الأثناء أتى الخبر من خارج القصر أن ابن عروة كان في الاسطبل يشاهد الخيول.. فرفسه أحد الخيول فقضى عليه.

فاغتم الوليد من هذه الأحداث المتتابعة على ضيفه، واحتار كيف يوصل له الخبر المؤلم عن موت أحب أبنائه إليه، فلما أفاق عروة، اقترب منه وقال له: أحسن الله عزاءك في ابنك، وأحسن الله عزاءك في رِجلك.

فقال عروة كلمات سطرها التاريخ: (اللهم لك الحمد، وإنا لله وإنا إليه راجعون.. أعطاني سبعة أبناء وأخذ واحدًا، وأعطاني أربعة أطراف وأخذ واحدًا، وإن ابتلى فطالما عافى، وإن أخذ فطالما أعطى.. فله الحمد على ذلك كثيرًا).

علمتني اللغة

علمتني الأسماء أن الصحيح من سلم من واو الوسواس، فصحَّ اسمه، وحقَّ له الإعراب وهو البيان؛ أي قطع العوائق، ومحو العلائق، والتخلي عن الآفات والمفاسد، والتحلي بالفضائل والمحامد، وحل وثاق النفس، أي وثاق كان، بسلاسل غلاظ أم دقاق رفاع، مادام منهن تَكتِيفٌ وإقْعاد، ووسوسة وإرجَاف؛ وهو ما أدركه أبو علي الدقاق لمن جاء له مشتاق، قاطعا الفيافي والقفار والمسافات الطوال، محدثا إياه: “قد قطعت إليك مسافة”، فقال له أبو علي: “ليس هذا الأمر بقطع المسافات. فارق نفسك بخطوة، يحصل لك مقصودك”، فتلجم النفس، وتقطع منها البلعوم، بصحبة وذكر في جماعة، وإقبال وإخبات وإقدام وسعي نحو قدام، لتخرج نقي الثوب، بريئا من العيب.

علمتني الأسماء الصحيحة البريئة المبرأة من علة الواو الوسواس أن لا أكون اسما غرَّه الإمهال، فجرَّ أذياله في الغفلة والإهمال، في وقت عمارة المسجد والمحراب، وزمن تلاوة الكتاب.

يا هذا: “لقد ربح القوم.. وأنت نائم، وخِبْتَ ورجعوا بالغنائم، بالليل راقد… وبالنهار هائم”.

يا هذا: كيف ينزع رداءه ولباسه من يشكو البرد، وينصب خيمته في وادي العواصف… في ليلة شهباء… ثم يعجب من أين يأتيه السُّعَال!

شذرات شعرية

يا صاحب الجاه العَظيم لمثلها ** أَحسنت ظني في الزَمان فحابا

قم بي وَبالمرضى فجودك عارض ** ما زالَت المَرضى إليه عيابا

فَلَقَد جَعلتك في الخطوب وَسيلَتي ** أن نابَني زمن قرعت البابا

مرض الشاعر البرعي فأشعر متوسلا برسول الله صلى الله عليه وسلم وقرع باب طيبة:

حيث المظلل بالغَمامة وَالَّذي

ملأ الزَمان هداية وَصوابا

والشاعر البرعي هو عبد الرحيم بن أحمد بن علي البرعي اليماني؛ شاعر متصوف، من سكان اليمن. له ديوان شعر أكثره في المدائح النبوية، قال في قصيدة أخرى بعنوان مقيل العاثرين أقل عثاري:

مُقيلَ العاثِرينَ أَقِلْ عِثَارِي ** وَخُذْ لي منْ بَني زَمَني بِثاري

وَجَمِّلْني بعافيةٍ وعَفوٍ ** منَ الأمراضِ والعِللِ الطَّواري

فَغَمُّ البَلْغَمِ استوفى نعيمي ** ومَقْدَمُ أمِّ مِلْدَمَ لَفْحُ ناري

أذابَ حُمُوُّها لحمي وعظمي ** ولستُ منَ الحديدِ ولا الحجارِ

فيا فرداً بلا ثانٍ أَجِرْني ** بِعِزِّ عُلاكَ منْ شأنٍ وِزارِ

ولاَ تُشمِتْ بيَ الأعداءَ وانظرْ ** إليَّ برحمةٍ نظرَ اختيار

(…)

كريمٌ مُنعمٌ بَرٌ رَؤوفٌ ** مقيلُ العاثرين من العثارِ

إلهي عافِني وأَصِحَّ جسمي ** وَصِلْ واقبلْ برحمتكَ اعتذاري

وطَهِّرْ قَالَبي وَتَغَشَّ قلبي ** بأنوارِ السكينةِ والوَقارِ

(…)

وصلِّ على النبيِّ وتابعيهِ ** وعِتْرَتِهِ الخِيارِ بني الخيارِ

فمدحُ محمدٍ شرفي وعِزِّي ** وجاهي في العشائرِ وافتخاري

على سبيل الختم

من جميل كرمه تعالى أن جعل بعد العسر يسرا.. 

والأمراض مهما طالت وعظمت لا بد لأيامها أن تنتهي، ولا بد لساعاتها أن تنجلي..

وَلَرُبَّ نازِلَةٍ يَضيقُ لَها الفَتى ** ذَرعاً وَعِندَ اللَهِ مِنها المَخرَجُ

ضاقَت فَلَمّا اِستَحكَمَت حَلَقاتُها ** فُرِجَت وَكُنتُ أَظُنُّها لا تُفرَجُ


وَإِذا مَرِضتَ مِنَ الذُنوبِ فَداوِها ** بِالذِكرِ إِنَّ الذِكرَ خَيرُ دَواءِ

وَالسُقمُ في الأَبدانِ لَيسَ بِضائِرٍ ** وَالسُقمُ في الأَديانِ شَرُّ بَلاءِ

شافاكم الله جميعا وألبسكم رداء الصحة والعافية وإلى ضفاف جديد.. إلى اللقاء.