يقول الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (الروم، 54) صدق الله العظيم.
سبحان الله خالق الخلق ومغير أحواله وقدراته. كم هي عجيبة هذه الحياة! فلا شيء يبقى كما هو عليه، خلق الله الإنسان ضعيفا خفيفا، ثم أمده بالقوة والصحة والعافية فكان به حليما رحيما لطيفا، خلقكم من ضعف ثم جعل بعد الضعف قوة الشباب التي يعيش بها أجمل الأيام والذكريات مع الأحباب والأصحاب، ويجتهد فيها على جميع المستويات؛ الروحية والمهنية والصحية والنفسية وكذلك الاجتماعية، ثم تمر السنون والأعوام وتتلاحق الأيام تلو الأخرى حتى يصل الكبر والمشيب فيقف وقفة مع هذه الحياة التي أصبحت بالنسبة له ضربا من الخيال والأحلام، يقف وقد ضعف بدنه وظهرت عليه علامات السنون الماضية لما تركت من آثار.
هذه دورة حياتك أيها الإنسان؛ بلغها آباؤنا ونبلغها نحن عند الكبر ويبلغها من بعدنا أبناؤنا الأحباب.
فكيف نكون – نحن الأبناء – تلك القنطرة وذلك الأمل الذي يرجع تلك الآمال والأحلام ويحفظ المشاعر؟ كيف نكون أبناء بررة؟ كيف لا نجعلهم يشعرون بالوحدة والغربة في زمن غير زمانهم؟
جواب هذه الأسئلة وغيرها مما يتعلق بهذا الموضوع نستشفه من هذه الآية الكريمة، فهي جامعة ومانعة وشاملة؛ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (الإسراء، 23-24)، فأكبر برّ بهما لا يُلتمس في ريعان صحتهما وعافيتهما، وإن كان البر مطلوبا في هذه المرحلة أيضا، بل يظهر عند الكبر؛ حيث تخر قواهما وتتدهور صحتهما البدنية والنفسية والاجتماعية، فهم آنذاك أحوج له، بل يجب على الأبناء في هذه المرحلة رحمتهما والعطف عليهما والتواصل معهما برفق ولين وبكلام طيب يتوافق وقدراتهما الإدراكية، ولا أقول العقلية كما هو شائع، لأن كبار السن في هذه المرحلة لا تخر قواهم العقلية فهم من أعقل الناس، ولكن تنخفض قدراتهم الإدراكية، فوجب خفض الجناح والتماس الأعذار لهم، فكم أعذارا التمسوا لنا وكم رحمة ورفقا عاملونا به.
وها هو معلم البشرية والأسوة الحسنة والمثل السامي؛ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يضرب لنا مثلا في البر بالوالدين؛ مات والده صلى الله عليه وسلم قبل ولادته، وماتت أمه وهو ابن ست سنوات، فحضنته بعد سيدتنا حليمة السعدية سيدتنا أم أيمن الحبشية، حاضنة تولت من شؤون الأمومة أيسرها فاستحقت منه صلى الله عليه وسلم أتم الإحسان، وكان لها عليه إدلال وأي إدلال؛ روى الإمام مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: “انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم أيمن، فانطلقتُ معه، فناوَلَتْهُ إناء فيه شرابٌ. قال: فلا أدري أصادَفَته صائما أو لم يُرِدْهُ، فَجَعَلَتْ تَصْخَبُ عليه (تصيح عليه) وَتَذَمَّرُ عليه (تتكره من رفضه لشرابها).
وفي حديث مرسل عند أبي داود “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسًا يومًا فأقبل أبوه من الرضاعة، فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه، ثم أقبلت أمه (سيدتنا حليمة) فوضع لها شِقَّ ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه، ثم أقبل أخوه من الرضاعة، فقام له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه بين يديه”.
أي بر هذا؟ وأي خفض للجناح؟ وأي حنو وعطف؟ وأية مشاعر؟ وأي رحمة من رسول بعث رحمة للعالمين ؟
هو تقدير ورعاية ورحمة باعثة للأمل، وهو تعبير عن الامتنان والشكر والعرفان، ومعرفة وتوجيه لاحتياجات هذه المرحلة العمرية للوالدين، جعلنا الله تعالى ممن يسير على هديه صلى الله عليه وسلم.
(يتبع)